عزيزي المكلّف. تحيّة وطنية ونداءٌ مواطني وبعد. هل تعلم يا عزيزي بدايةً أن تسميتك هذه تختزن كل المعاني وتختزل كل الأوصاف كما وتجمع جميع فئات المواطنين والمقيمين دون إستثناء أو تميز أو تفضيل أو امتياز؛ بحيث تشمل الموظفين والأجراء وأصحاب العمل، والميسورين والمحتاجين، والحكام (مبدئياً) والمحكومين، والرجال والنساء والصغار والكبار، على حدِ سواء وغيرهم وغيرهم ممن يشملهم هذا “الشرف” العابر للإصتفافات. أي بمعنى آخر، كل شخص يتحمل وزر التكليف المباشر أو غير المباشر بالضرائب والرسوم لتمويل الإنفاق العام بصدد تأمين إدارة المرافق العامة وتوفير الخدمات والرفاهية للمواطنين والمقيمين (من حيث المبدأ والأصول طبعاً). من دونك وبغياب ضرائبك ومساهماتك لا تمويل للدولة ولا إستدانة ولا تغطية ولا بزغ وتبزير ولا إنفاق غير مجدي بل شحٌ وإفلاسٌ حتمي يستتبع قلب الطاولة على اللاعبين وطردهم من الصرح المُغتصب كتجار الهيكل ذات يومٍ مجيد.
ليست الساعة للتظلمٍ والتندمٍ أو الأنينٍ والبكاء بعد هدر جميع الفرص وإستنفاد كل السبل ونفاذ الصبر…بل للنهوض والوعي والتيقّن والمبادرة. لا نفعٌ بعد اليوم لتراشق التهم والتنصل من المسؤوليات بحجج واهية لم تعد تمت للحقيقة والواقع بصلة. فقد إفتضح أمرنا وإنكشفت حيلنا ووصلنا إلى عتبة الإفلاس الإجتماعي والإقتصاتدي وأصبحنا ماركين وفاشلين بأعين بلدان العالم أجمعين. وكيفا لا؟ حين ندعي العفة ونرفض التجاوزات ونلوم الغير عما نفعله نحن دون دراية أو تيقن. نطالب بتطبيق القوانين ونكون أوائل المخالفين مع الإدعاء بأن المبرر لذلك هو عدم قيام الغير بواجباته وعجز الدولة على إلزامه بالإنضباط وبالتالي، لا طائلة ولا فائدة بالمبادرة. نتزمرّ من الفساد المستشري ونشتكي مما آلت إليه الأمور في القطاع العام من تفشي لظواهر الرشوة والزبائنية وعجزٍ في الخدمة ونحن لا نتوانى بالمقابل في تمرير إكرامية من هنا أو تزلّف من هناك لتغطية تجاوزات أو تسوية مخالفات إرتبكناها نحن عن سابق تصور وتصميم أو ورثناها أباً عن جد وسكتنا عليها وقبلناها بكل دراية وإقتناع. فمن ترانا نلوم الغير أو نفسنا؟
ألم يكن من الأجدى الإلتزام بالقوانين والقيام بما علينا من موجبات تفرضها مواطنيتنا والعقد الإجتماعي الذي يجمعنا ليتسنى لنا فيما بعد، دون خوف أو خجل، مساءلة الدولة ومحاسبة المسؤول على عدم توفيرهما المقابل الحياتي والخدماتي الذي نحن أولى وأحق من سوانا للمطالبة به طالما أننا مصدر تمويله؟ وإلا فما عسانا ننتظر من مفهوم الدولة إذا كانت المزارع هي مأوانا وملازنا الأخير؟
كاد الحراك المدني أن ينجح أخيراً في زحزحة ثقة أهل السلطة المتجزرين المترهلين القابضين على الثروة الوطنية ومكتسباتها لولا إفتقاده لبرنامج عمل واضح المعالم ومتماسك ومشروع إصلاحي قوامه المؤسسات والقانون وترشيد التغيير من خلال الوسائل الديمقراطية المتاحة والمشروعة. أما من أهم ما ينقصه وينقصنا نجد التواضع والمعرفة. بالفعل، ندعي العلم والثقافة المالية ونحلل إقتصاديات العالم وننتقدها بينما تُظهر نتائج المسح الوطني الذي نظمه البنك الدولي أخيراً بالتعاون مع المعهد المالي، أن معظم اللبنانيين لديهم قصور في المعرفة المالية والوجدان الضريبي و يشتكون من العيوب والنواقص التي تعتري نظامهم دون أن يكونوا في المقابل على دراية أو إلمام بأصوله وتفاصيله. وهذا إن دلّ على الشيء، فإنه يدلّ على الحاجة الماسة إلى تعزيز المعرفة المالية من خلال المناهج التربوية التعليمية الملائمة كما وعن طريق تبسيط المفاهيم والأنظمة والإجراءات الضريبية لكي تُصبح بمتناول الجميع. ولا ريب في أن تقوية المعرفة والوعي الضريبيين من شانهما أن يدفعا في إتجاه الإهتمام والمساهمة من قبل المواطنين في مراقبة وتقييم المالية العامة وسيما عملية إدارة وتنظيم المال العام. وهذه هي باكورة التغيير والإصلاح الفعلي.
وإنطلاقاً من كل ما تقدم، وبهدف التأثير الإيجابي على الوعي والوجدان الضريبيين والوصول إلى المبتغى المرجو، أُطلقت أخيراً مبادرة مدنية تهدف إلى نشر المعرفة المالية بصدد تحسين وتفعيل صورة وأهداف الضريبة لدى المكلفين وإقتراح حلول عملية وقانونية للمشاكل القائمة من خلال التشاور البناء مع المراجع المختصة وتحديث النصوص؛ مما قد يؤدي على المدى المنظور إلى إدارة رشيدة للإقتصاد الوطني وإعادة توزيع عادلة للثروة بشتى الأشكال. فكل ما هو مطلوب منك يا عزيزي المكلف هو تلقف هذه الفرصة والتفاعل الإيجابي معها لإحداث خرقٍ فعلي في الجدار الإنحداري الذي طالما إعتقدناه صلب وغير قابل للإلتواء والتجاوز أو التحطيم. صحيح أنك قد تستسهل الإنتقاد واللامبالاة معتبراً أن عدم الإلتزام الضريبي يشكل وسيلة سلمية وناجعة لتحدّي الدولة والإعتراض على (عدم) شرعيتها؛ إلا أنك قد تغفل بالمقابل أن من شأن ذلك أن يؤدي إلى توليد حلقة مفرغة تضعف معها عطاءات الدولة بتضاؤل إيراداتها ويقوى الإرتهان للزعماء الذين يعززون سطوهم ونفوزهم من خلال الفساد والزبائنية. فأي دولة تريد حقاً؟ لك حرية الخيار…
كريم ضاهر*
* محام وأستاذ جامعي