كريم ضاهر*
يقوم النظام الضريبي اللبناني الحالي بشكل أساسي على ثلاث ركائز وهي: الإقليمية في التكليف وإعتماد الضرائب النوعية (scheduled taxes) كإطار ناظم وطغيان الضرائب غير المباشرة التنازلية (régressives) على الضرائب المباشرة. وهي خصائص وسمات وضعها المشرع في آواخر الخمسينات من القرن الماضي عن سابق تصور وتصميم لكي يتناسب نظامه الضريبي وماليته العامة مع الظروف السائدة والمحيطة في حينه مع خطة واضحة لتحفيز النمو وجزب الرساميل والإستثمارات والودائع لكي تتكفل بإطلاق المشاريع وتطوير الإقتصاد وتنمية المدن وإعطاء دور محوري إقليمي للبلاد في محيطه القريب والبعيد.
وقد تكللت هذه الخطة والإستراتجية الملازمة بنجاح باهر خلال عقدين من الزمن وجعلت من لبنان مرتعاً لأصحاب الرساميل والثروات ومقصد للسواح والمشاهير وأضحى سويسرا الشرق الأوسط كما كان يحلو للعديد تسميته. وقد إتسم نظامه بالمرونة والتكييف كونه كان من السهل إعتماد تدابير خاصة جزئية محصورة ببعض الضرائب دون سواها زيادةً أو نقصاناً أو إعفاءً طبقاً للحاجات والبرامج. إلا أن هذا النجاح الباهر والظاهر كان يخفي حقيقة أخرى وواقع مشؤوم وهو ضعف الدولة وإضمحلال المواطنة وإفتقاد الحس التضامني التشاركي. وقد إسشرى التهرب الضريبي وأضحى سمةً يتباه بها أصحاب النفوذ والرساميل كما وسائر المواطنين وقد حفز هذا الجنوح عوامل لم تزل مسيطرة كالسرية المصرفية والفساد الإداري وضعف الحس المواطني ونظام الضرائب النوعية التي تعتمد أصول خاصة وتتيح للعديد من الأشخاص تفادي التصريح عن إيرادات مخفية ومستترة وغير ملحوظة في المنظومة سيما وأنه يعفي إلى حدٍ كبير شريحة واسعة من المواطنين والمقيمين من موجب تعبئة وتقديم التصاريح الضريبية المفصلة عن إيراداتهم ونفقاتهم وثرواتهم ويسمح بأستثناء الأصول والإرادات المحققة في الخارج من التكليف. ومع التغيرات الدولية والعولمة وإعادة هيكلة الأنظمة لجهة الشفافية والنزاهة والمحاسبة كما وتبعاً لإنهيار النموذج الإقتصادي اللبناني بعد جنوحه نحو مزيد من الريعية والمراباة (Ponzi Scheme) وإفراطه في التجاوزات والهدر والمحسوبيات، تحولت النعمة إلى نكبة وأصبح ملحاً اليوم تطوير وإصلاح النظام المالي والضريبي على حدٍ سواء.
وعليه، وكما بات معلوماً بالنسبة للضرائب، فهنالك مبادئ أساسية يقتضي احترامها وهي العدل في التوزيع بين المكلفين وسهولة الجباية ومردوديتها/إنتاجيتها (أقصى الاستفادة بأقل الأثمان أو الكلفة) وعدم تحميل المكلف أكثر من طاقته لكي لا ينعكس ذلك سلباً على الجباية والواردات. كما أن النمو الحقيقي من شأنه أيضاً تأمين زيادة الواردات الضريبية من خلال تكبير حجم الإقتصاد الوطني عن طريق زيادة الإستثمارات وتقوية الإنتاجية والتنافسية وخلق فرص عمل وتفعيل الإستهلاك الفردي والصادرات. إلا أن هذه الأهداف والمقترحات القيمة لا تعدو إلا تمنيات وأفكار لا يتبعها تنفيذ طالما أن المواطنية الضريبية (حس وإلتزام) غائبة مع غياب دور الدولة الراعية وخدماتها البديهية كما وفي ظل بيئة أعمال ووضع إجتماعي قابعين في الحالة المزرية والمترهلة السائدة اليوم. ولا يطننا أحد أن التغيير ممكن في معزلٍ عن ورشة إصلاحية شاملة للقوانين المرعية وتدابير إدارية موازية ناجعة لوضعها موضع التفيذ. ومن أهم تلك التدابير تحديث وتطوير نظامنا الضريبي كما ومكافحة الفساد بشكل فعال ومجدي في شتى الإدارات ولدى كل السلطات وسيما منها القضائية والرقابية لما لها من دور محوري في هذا الشأن وما هو ملازم من جهد لتطبيق القانون على الجميع دون إستثناء مع إرساء مبدأي المساءلة والمحاسبة. فالمطلوب أولاً بأول، هو معالجة الخلل الناتج عن ضعف تحصيل الضرائب المتوجبة وتكبير الدخل وزيادة الإنتاج الفعلي قبل أي شيء آخر. وأول الغيث طبعاً هو محاربة التهرب الضريبي الذي له عدة أوجه وكلفة عالية على خزينة الدولة. على أن يتزامن ذلك مع تدابير ناجعة لإعادة التوازن والمساواة بين المكلفين وتحفيز لمناخ الأعمال والاستثمارات عبر تطوير النصوص وتحديثها لتواكب التطورات العلمية والتكنولوجية وتزيل الإبهام والغموض الذي يفتح المجال للاستنسابية والتعسف.
للتهرب الضريبي مثلاً عدة أوجه، منها ما هو مشروع أو أقله مجاز وغير مخالف للقانون كالحالة التي يستفيد منها المكلف عندما تكون النصوص مبهمة والأنظمة متساهلة بحيث يتمكن من البقاء مكتوماً وغير خاضع لأي تكليف على غرار ما يتيحه له نظام الضرائب النوعية المطبق راهناً في لبنان والملائم للإقتصاد الخفي الموازي. كما ويتجلى ذلك أيضاً في حالة منح حوافز ضريبية تفاضلية تمييزية وغير مجدية للمصلحة العامة والتنمية المستدامة مثال الحوافز البالية الممنوح لبعض القطاعات والنشاطات منذ عقود والتي لم تعد تتناسب مع التغيرات الميدانية وتطور الإقتصاد العالمي والرقمي. كما يوجد طبعاً أوجه أخرى معروفة غير مشروعة ومتعددة للتهرب ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر التهريب على الحدود، إزدواجية القيود الحسابية، العمليات الصورية و/أو الإساءة مع التعسف في استعمال الحق، وإلخ.
وعليه، والحال ما تقدم، يتعين إيجاد إطار تعديلي ومعالجة خاصة لتلك الحالات من خلال سلة مقترحات وأفكار إصلاحية – تندرج في سياق ما يسمى بالوفرة الضريبية بعناصرها الثلاثة أي الإنتاجية والإستقرار والمرونة – لعلها تشكل مصطلحاً للنقاش الجدي حولها والدفع نحو تطويرها أو رفدها بأفكار ومقترحات أخرى حيوية على المديين المنظور والمتوسط. في هذا السياق، لا بد بدايةً من توسيع قاعدة المكلفين وتعميم الرقم الضريبي الموحدّ عملا بأحكام المادة 34 من قانون الإجراءات الضريبية وربطه برقم الهوية أو جواز السفر أو الإقامة (للأجنبي المقيم) لتسهيل التتبع كما وتحسين آليات التبيلغ للحؤول دون التهرب من قبل المكلفين أو التعسف من قبل المراقبين. ومن ثم، تحسين وتطوير آليات الإستقصاء والمراقبة لملاحقة المكتومين والمخلين عن طريق إجراءات وتدابير عملية متعددة نذكر منها توثيق المعلومات من خلال الواجهات الإلكترونية (interfaces) وقواعد البيانات المتسلسلة (Blockchain) لتحليلها من قبل الإدارة الضريبية وكشف الثغرات كما وإنشاء قاعدة ترابط بين الإدارات تساعد على كشف عمليات الإخفاء والتهرب والإحتكار والتلاعب في الأسعار (data mining)؛ على أن يترافق ذلك كله مع إصلاحات تشريعية ضرورية ومن ضمنها فرض موجب التصريح عن الذمة المالية (الثروة) المملوكة في الداخل والخارج كما والنفقات (حتى النثرية منها) لتتبع العمليات وتحليل وضع المكلفين والتفاوت الحاصل بين مدخولهم المصرح عنه وثروتهم الفعلية أو مظاهر الإثراء الخارجي. ومن هذا القبيل يقتضي أيصاً الإنتقال في التكليف بالنسبة للأشخاص الطبيعيين من مبدأ الإقليمية (territoriality) إلى مبدأ الإقامة (residence) وإعتماد نظام الضريبة الموحدة على الدخل بشطورها التصاعدية على مجمل الإيرادات مهما كان مصدرها في الداخل أو الخارج وإنما مع مراعاة المعاهدات الضريبية النافذة. وإن إستحداث هذه الضريبة هو الإصلاح الأساسي والفعلي الذي يُعوّل عليه؛ أولاً، لتحقيق عدالة ضريبية وإجتماعية طال إنتظارها؛ وثانياً، لتحسين الجباية وتأمين الإلتزام ومحاربة الغش والتهرب والإقتصاد الخفي الموازي. وتعتمد هذه الضريبة على مبدأ تجميع الإيرادات على أنواعها، كالأرباح المهنية وإيرادات رؤوس الأموال المنقولة والإيرادات الرأسمالية وإيرادات الأملاك المبنية وسواها ضمن مطرح ضريبي واحد خاضع للضريبة التصاعدية.غير أنه يقتضي بالمقابل الإبقاء، أقله مرحلياً، على آلية تحصيل الضرائب عند المنبع وذلك نظراً لما تتمتع به من مزايا كونها سهلة الجباية ومفيدة لتأمين الموارد اللازمة دون إلزامية توفرّ جهاز إداري ضخم للمتابعة والتدقيق؛ وبحيث يتم تسديد فرق الضريبة المترتبة. كما أن نجاح نظام التصريح الذاتي الآنف الذكر يبقى مرتبطاً إلى حدٍ ما بتأمين العدالة والرفاهية غير المتوفرة في الوقت الراهن ناهيك عن أنه يستلزم تطبيق إجراءات غير شعبية ملازمة كرفع السرية المصرفية والتصريح عن الذمة لكي يتم التثبت من أصولية التصريح وعدم إخفاء مورد سيما لجهة تطبيق النسب التصاعدية. مع الإشارة إذا لزم إلى أن السرية المصرفية، ونتيجةً لتطبيق إتفاقية التبادل التلقائي للمعلومات، قد أضحت محصورة بالمقيم في لبنان مما حول البلد إلى مرتع و”ملاز ضريبي محلي” للمخالفين والمتهربين والفاسدين؛ مما يبرر رفعها نهائياً لانتفاء الحاجة والهدف وإنما مع الإبقاء على السرية المهنية والتشدد في تطبيقها ومعاقبة المخلين والمتجاوزين بشدّة. هذا، ومن المجدي ايضاً إن لم يكن من الواجب إعتماد سياسة ضريبية تحفز الإنتاج وتزيد العبء الضريبي على النشاطات التي لا تساهم في تأمين قيمة مضافة للإقتصاد أو إنتاجية مستدامة أو تلك القطاعات التي إستفادت، دون غيرها، من ظروف إستثنائية على غرار إنتشار وباء كورونا ونتائجه والأزمة المالية وإنفجار مرفأ بيروت (وإلخ.). على أن يخصص بالمقابل في الموازنة باب خاص للإنفاق الإجتماعي الملحّ (البطاقة الطبية، ضمان البطالة، شبكة الأمان الإجتماعية، إلخ) وتحفيز خلق فرص عمل. ومن ضمن المسعى عينه لزيادة الواردات وصياغة عقد إجتماعي جديد مبني على فكرة التضامن لا يضير فرض ضريبة تضامنية (فعلية) على الثروة (Wealth Tax) تُحتسب على أساس حد أدنى معين ونسبة تصاعدية من مجمل أصول وممتلكات وأموال المكلفين المقيمين المنقولة وغير المنقولة المتواجدة في لبنان و/أو في الخارج. وفي نفس السياق التشريعي، من المفيد أيضاً تعديل قانون الإجراءات الضريبية لمعالجة الثغرات العديدة والالتباس السلبي والمضر الذين يكتنفون بعض مواده كما ولتحسين وتفعيل التعاون البناء بين الإدارة والمكلفين وتقوية المواطنية الضريبية وتحفيزها وتفعيل الجباية والالتزام؛ ناهيك عن إلزامية إعطاء صورة إجابيه للمستثمرين الأجانب لجهة الثبات التشريعي والعدل والإنصاف وحداثة النصوص. كما ويجدر إجراء إصلاح جزري لضريبة الأملاك المبنية بتعديل القانون برمته من خلال التمييز بين الإيراد المتأتي من تأجير الأملاك من الغير من جهة، وضمه لسائر المداخيل الأخرى المكلفة بموجب نظام الضريبة الموحدة على الدخل، وبين الرسم المترتب على حيازة العقار وإستعماله للسكن من قبل مالكه من جهة أخرى، الذي يؤول إلى السلطات المحلية لتنفيذ المشاريع وتحسين الخدمات ضمن النطاق المكاني المحلي المخصوص. وأخيراً وضمن خطة إقتصادية تنموية متكاملة، تحديث قانون رسم الإنتقال بحيث يُسمح بنقل ملكية جزء من الأصول تدريجياً ودون مقابل إلى الفروع والورثة الشرعيين دون تحميلهم عبء الرسم بشرط إستثمار تلك الأصول في مشاريع واعدة في لبنان مما يحفز إمكانية خلق فرص عمل للشباب وحثهم على البقاء في بلدهم والإستثمار فيه. وهذا غيض من فيض مما يمكن إقتراحه وتضمينه في أي برنامج إصلاحي هدفه إنقاذ الوضع والسير على طريق التعافي لا تمرير الوقت وإداء الواجب ليس إلا.
وفي الختام، يبقى السؤال ماثلاً في الأذهان والتحفظ مشروعاً لجهة القدرة المتاحة للشروع في تلك الإصلاحات ووضعها موضع التنفيذ الجدي في غياب الإجماع السياسي على ذلك والقدرة على القبول بالتضحيات الأليمة والمكلفة إذا ما تم التخلي، من قبل الجهات النافذة والمتحكمة بالقرار السياسي على الصعيدين التشريعي والتنفيذي ومن يدور في فلكها أو يؤثر عليها، عن المصالح الطائفية والفئوية والزبائنية والسياسية والمناطقية وتحمل كلفة الخسائر التي قد تلحق بكل طرف نافذ ومؤثر كما وبالتوازنات إذا ما قام كل من هؤلاء بالتنازل عن بعض مكتسباته وترجيح المصلحة العامة على حساب مصالحه الشخصية والفئوية. وأول الغيث يكون في عملية مسح لإدارة الدولة وملاكها بهدف إجراء عملية تقويم إداء لمعالجة الفائض والشغور في آنٍ وصولاً إلى تخفيف حجم الإدارة وكلفة المنافع والتعويضات غير الضرورية و/أوغير المستحقة.
* أستاذ محاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين