كريم ضاهر*
من يطلّع على مشروع قانون موازنة العام 2021 وفذلكته أو يتمعّن في المضمون، يكتشف بما لا ريب فيه أن هذا المشروع بمثابة صورة مصغرّة وأمينة لوضع وواقع الحكومة المستقيلة التي سوف تتبناه؛ أي تشخيص واقعي للأمور وإشارة صريحة ومتجردة للمعوقات وبعض الحلول وتمنيات صادقة وتدابير خجولة غير كافية ومعزولة عن أي حلّ شامل وبرنامج متكامل واضح المعالم للخروج من الأزمة المستفحلة؛ والأخطر: عدم القدرة على إحداث التغيير المنشود أو أقله المباشرة به كما وتقاعس في التنفيذ وتجنب أي تدبير من شأنه الإزعاج أو الإرباك أو المواجهة… وهذا يتجلى في الإنفصام القائم والتباين الكامل بين ما تنص عليه الفذلكة من جهة وما تتضمنه الموازنة المقترحة ببنودها وأرقامها وجداولها، من جهة أخرى.
بالفعل، قد يبدو للوهلة الأولى لمن يقرأ الفذلكة أنها تقرير مفصل عن واقع الحال المزري في البلاد والأسباب التي أدت إلى الإنهيار والأخطار المحدقة والتحديات الماثلة مع جملة مقترحات وأفكار مدرجة كعناوين دون تفصيلها أو تحديد إجراءاتها العملية التنفيذية… وكأنه تقرير أو دراسة صادرين عن خبراء ومستشارين موكلين من قبل الحكومة لإجراء تقويم أولي تمهيداً لتحديد الحكومة لسياستها العامة وبرنامجها للسنة المخصوصة وعليه، إتخاذ الإجراءت التي تقترحها في الفذلكة والموازنة.
صحيح أن مشروع الموازنة للعام 2021 قد راعى الظروف الصعبة السائدة وتجنب زيادة الضرائب في ظل ما يسود من حالة ركود وإنكماش وتضخم مفرط (stagflation) وقد حرص واضعيه على تأمين تضامن إجتماعي وتأمين بقدر الإمكان (“العين بصيرة واليد قصيرة” كما يقال) شبكة أمان إجتماعية بحدها الأدنى من خلال إعتمادات لمكافحة الفقر والحد من البطالة والهجرة وغلاء الأسعار وتدني القوة الشرائية وتأمين التغطية الصحية. كما حاولوا تحفيز الإستثمار وجزب الرساميل الأجنبية من خلال حوافز طال إنتظارها مع أنها مقترحة في التوقيت الخاطئ وليس من شأنها (حسب تقديري الشخصي) تحقيق النتائج المرجوة و/أو إحداث صدمة إجابية تعيد الثقة والإطمئنان في حال أقرت بمعزلٍ عن التدابير الأخرى الضرورية الملازمة التي تهم المستثمر والمتمول. ولعله لا يضير القول المأثور هنا “أن تأتي متأخراً خيرُ من أن لا تأتي أبداً”.
كنا نأمل نقلة نوعية وإصلاح فعلي في المالية العامة من خلال موازنة شفافة وشاملة وعصرية سيما أن الظروف الإستثنائية الراهنة كانت تحتم موازنة إستثنائية جريئة وخلاقة لا موازنة شبيهة إلى حد التطابق مع سابقاتها. وطالما أن الحكومة مستقيلة وغير مرغوب بها لا شعبياً ولا من قبل رعاتها أو المنظومة الحاكمة والمتحكمة بمصير البلاد والعباد، وبالنسبة للبعض، متخطيةً لصلاحياتها بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال، كان الأجدى بها تحقيق خرق فعلي وإعداد موازنة عصرية إصلاحية ولو كلف الأمر رفضها ومعارضتها من قبل الشريحة الأكبر من النافذين كما والمتضررين سيما على المستوى الإداري أو الإقتصادي أو الإحتكاري.
يفرض البحث في الموازنة وبالتالي في إصلاح المالية العامة، البحث مقدماً في مهام الدولة الأساسية. فعليها يقع واجب حماية الاقتصاد الوطني، وتأمين الحماية الإجتماعية، ونشر العلم والمعرفة، وزيادة الثروة وحسن توزيعها بشكل عادل. كذلك عليها إعادة الإعتبار لصدقيتها وثقة المواطنين والخارج بها. هذا الأمر يُكرّس بإصلاحات تشمل إجراءات طارئة وسريعة لخفض العجز وطمأنة الدائنين وتثبيت النقد ومكافحة الفقر المتفشّي وإعادة إطلاق العجلة الإقتصادية. ومن شروط ذلك، تأمين الواردات وترشيد الإنفاق عبر تحديد الحاجات الفعلية وقواعد وآليات الجباية والإنفاق، فضلاً عن المراقبة الفعالة. فالموازنة هي الأداة الأساسية للمالية العامة. هي وسيلة للتدخّل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق البرامج والوعود التي التزمتها السلطات السياسية. تدخّل كهذا يتم عادةً، من خلال فرض الضرائب أو الإعفاءات بحوافز و/أو بزيادة أو خفض الإنفاق العام بما يتلاءم مع الظروف والحاجات وضمن خطة مدروسة واضحة المعالم والأهداف.
ولقد كانت القاعدة الأساسية تقليدياً هي تأمين التوازن بين الواردات والنفقات أي “الجباية بقدر الكفاية”. أما الآن ومع تطور المفاهيم والدور الذي يقتضي على الدولة تأمينه، فالتوازن بالمفهوم الكلاسيكي القديم لم يعد له سوى قيمة نسبية لاعتبارات أكثر أهمية سمحت ببعض الإستثناءات وإنما بشرط أن يكون مجموع النشاط الاقتصادي والاجتماعي موجهاً بصورة سليمة والإنفاق جاري بصورة شفافة وتحت رقابة فاعلة طبقاً للأنظمة المرعية. فالوفر كالعجز ليس محبباً لأن المال المحصل يقتضي ان ينفق لمصلحة المواطن.
عملياً، المطلوب اليوم قبل الغد، وبالتزامن مع تنفيذ أي برنامج إنقاذي، خفض تدريجي في نسبة العجز إلى الناتج المحلّي قبل تأمين توازن الموازنة على المدى المنظور والوصول إلى فائض أولي سريعاً، بالإضافة إلى تنفيذ رزمة إصلاحات هيكلية وبنيوية وقطاعية. وهذا يحتم أن يكون مجموع النشاط الاقتصادي والاجتماعي موجّهاً بصورة سليمة وشفافة من خلال الموازنة. لذا يتعين على أي موازنة، لهذه السنة أو للسنوات المقبلة، أن تكون وسيلة لتنفيذ خطة التنمية المستدامة.
هكذا، أصبح ضرورياً، بل مجدياً، إعادة الموازنة إلى مسارها الصحيح استناداً إلى معيارين: الشفافية، والمحاسبة. الشفافية تضمن حقّ المجلس التشريعي بمراقبة السلطة الإجرائية وتعاطيها مع الإعتمادات التي رصدها البرلمان لتغطية نفقة محدّدة مسبقاً بموضوعها وقيمتها. بمعنى آخر، لا يجوز عقد نفقة أو ترتيب دين على الدولة من دون الإستحصال على إجازة برلمانية مسبقة. غير أن تلك الإجازة يقتضي أن تبنى على معرفة وتيقن وإستشراف لكي لا تشوبها عيوب الرضى. ففي ظل غياب الصدقية والإلتزام في التنفيذ، ومع تعذّر الحصول على فرضيّات ماكرو إقتصادية مسبقة ودقيقة ومراقبة ملازمة فعّالة، لم تعد تتلاءم الآلية الكلاسيكية للعمل البرلماني مع المفهوم الحديث للمالية العامة، بل تفتح مجالاً للعديد من المخالفات والتجاوزات من دون إمكانية تحميل المسؤولية إلى طرف ما. الدليل على ذلك، هو جنوح الحكومات إلى التفلّت من قيد البرلمان في تخصيص النفقات من خلال تضمين الموازنة إعتمادات إجمالية تعيد الحكومة تخصيصها محلّ المجلس النيابي وفقاً للحاجة أو لتقديرات غير ثابتة. كما أن العرض المفصل للواردات والنفقات في الموازنة يطيل أمد المناقشات البرلمانية ويحول البرلمان من سلطة مراقبة سياسية إلى سلطة رقابة محاسبية. فكلما كانت النفقات مفصّلة، كلما ازداد احتمال ارتكاب الأخطاء في تخمينها. لذا، من الضروري الإنتقال من موازنة البنود إلى موازنة البرامج والإداء التي تعتمد تقسيماً وظائفياً بحسب المهام وتعطي الحكومة حيز من الحرية في تحديد الأولويات ونقل الإعتمادات ومرونة أكبر في الإدارة لتمكينها من تحقيق الأهداف والسياسات الإقتصادية والإجتماعية والإنمائية التي من أجلها عُينت وتم على أساسها منحها الثقة. هذا من شأنه إضفاء معنى سياسي حقيقي على تصويت البرلمان على الموزانة، ومن شأنه تكريس مراقبة فعلية لأعمال الحكومة على تحقّق النتيجة بدلاً من التصويت على الوسيلة الممنوحة لها. هناك تكمن أهمية المساءلة السياسية السنوية وبالتالي المحاسبة وطرح الثقة بالحكومة المتقاعسة أو الوزير المقصّر…
هناك إجراءات تتلازم مع هذا التطوّر منها مثلاً: إعادة إحياء وزارة التصميم العام، وجوب الفصل بين مهمتي المالية وإعداد الموازنة، قيام الحكومة بتأمين معلومات كاملة ودقيقة ومتناسقة حول حسابات الدولة تحت طائلة ترتيب المسؤولية على القيمين على الشأن العام كما وإعتماد التكنولوجيا (financial cybernetics) في طور إعداد الموازنة ورصد الإعتمادات وتقدير الإيرادات لما تؤمنه من تدني في هامش الخطأ البشري. كذلك، لا بدّ من التشديد على ضرورة إعطاء قانون المحاسبة العمومية قيمة تفوق قيمة القوانين العادية بإعتباره متمماً لأحكام الدستور المتعلقة بمالية الدولة. أما الأهم، فهو السهر الدائم على ربط أي تدبير في الموازنة أو رصد إعتماد أو فرض ضريبة و/أو رسم بوجوب إجراء دراسة وقع إقتصادي (Impact economic study) أو دراسة إكتوارية أو دراسة جدوى إقتصادية (Feasibility study) مسبقة، ناهيك عن الإرتكاز على إحصائيات حديثة موثقة. وضمن مروحة الرصد والإستقصاء عينها لا يضير توسيع دائرة الإستشارات والمشاورات المسبقة لكي تشمل النقابات والمنظمات المهنية والهيئات الأكثر تمثيلاً لإغناء النقاش وتقديم الإقتراحات والأفكار ضمن ما يسمى بالموازنة التشاركية التي تحفز المواطنية الضريبية.
* أستاذ محاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين