بنهاية هذه السنة الحالية 2016 كيف يمكننا تقويم الوضع الإقتصادي للمؤسسات والشركات التجارية والأفراد بصورة مقتضبة على ضوء التعديلات الضريبية والمعلوماتية المتسارعة.
كثيرون يرسمون خط فاصل بين ما قبل تشرين الأول 2016 وما بعده…أغلبهم بسبب إنتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية وما حمله من آمال على صعيد إعادة تحريك مؤسسات الدولة ومحركات البلد وذلك مع وقف التنفيذ إلى حين تشكيل حكومة جامعة وإجراء إنتخابات عادلة.
إلا أن شهر تشرين الأول رسم أيضاً خط فاصل إقتصادي بين الماضي والحاضر والمستقبل نتيجة صدور قوانين مالية جديدة من شأنها، إذا أضيفت إلى رزمة قوانيين الضرورة الصادرة السنة الماضية، إن تقلب المشهد رأسا” على عقب.
كيف؟
أصبح من المعلوم ولم أكرر هنا ما سبق وتم شرحه وتفصيله من قبل الزملاء المحاضرين ولا من قبلي أنا في ندوات سابقة، لكنني سوف أفصل بين محورين متلازمين متكاملين الأول مصرفي ومتعلق بتبادل المعلومات الضريبية في ظل القانونين 43/2015 و55/2016 الذي ألغاه وطوّر الإجراءات (1). أما المحور الثاني فهو قانوني ضريبي بحت يستعرض نتائج القوانين الصادرة أخيراً على الأفراد والشركات سيما بالنسبة للعمليات والتركيبات الهادفة إلى التهرب من الضرائب أو تقليس عبئها عليهم أو من يمثلون (2).
- التعاون الدولي في المجال الضريبي والاتفاقيات الدولية المتعددة الأطراف لتبادل المعلومات الضريبية: بين الماضي والحاضر والمستقبل:
لعبت كل من العولمة والتبادل التجاري الدولي دوراً مهماً على صعيد تمكين الكثير من الأفراد والشركات من تحقيق وحيازة وإدارة ذمة مالية مهمة خارج نطاق دولة إقامتها الإقليمي من خلال مصارف ومؤسسات مالية متواجدة في تلك البلدان؛ مما سمح لهم لعقود بإبقاء تلك الأرصدة مكتومة وأرباحها غير خاضعة لأي ضريبة بسبب التناقضات التي كانت تعتري الأنظمة الضريبية الدولية والتباينات بين معايير الإقامة والإقليمية وسواهما.
ولم تفلح مساعي الدول للتقارب والتعاون التقني في المجال الضريبي للحدّ من هذه الظواهر إلا بعيد الأزمة المالية لسنة 2008 وتطبيق الولايات المتحدة بصورة أحادية نظام الإمتثال الضريبي FATCA الذي يفرض على المصارف والمؤسسات المالية تزويدها بالمعلومات المالية العائدة إلى رعاياها والمقيمين لديها وذلك دون أي موجب من قبلها للتعامل بالمثل.
وقد أدى ذلك بادءاً ذي بدئ إلى تطوير وتعديل سنة 2010 المعاهدة القديمة المتعددة الأطراف المعروفة بالإتفاقية المتعددة الأطراف للتعاون التقني في المجال الضريبي
Multilateral Convention on Mutual Administrative Assistance in Tax Matters (the “Convention” ‘MAC”)”
لإدخال المعايير الجديدة المعتمدة من قبل منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OECD) وسيما ما يعرف بمعايير الترقب (foreseeably relevant standard) كما والسماح للدول غير المنضوية في منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية بتطبيق تلك المعاهدة بصفة عضو. ومن المعروف أن تلك المعاهدة تفرض تزويد المعلومات الضريبية والمالية للمقيمين والرعايا غب الطلب، دون شروط (لجهة المصلحة أو السرية المصرفية) وبصورة عفوية (upon request and spontaneous) لكي تتمكن الدولة مقدمة الطلب من تطبيق قوانينها الضريبية بصورة فعالة والحدّ من التهرب الضريبي؛ كما أنها تتضمن أيضاً أحكام وشروط تحفظ سرية المعلومات وضوابط عدم إستعمالها بصورة غير مشروعة للتهديد أو التوعد.
أما التبادل التلقائي (automatic exchange) فهو يفترض وفقاً للمادة 6 من المعاهدة توقيع معاهدة خطية ثنائية أو متعددة الأطراف منفصلة بين دولتين أعضاء أو أكثر مع الآلية والإجراءات التي يحددانها.
وعليه، ومنذ ذلك الحين أصبح هناك آليتين للتبادل والتعاون:
- الأولى الناتجة عن تطبيق أحكام المعاهدات الدولية الثنائية لتبادل المعلومات الضريبية (TIEA) أو لتفادي الإزدواج الضريبي (DTT) وسيما احكام المادة 26 النموذجية. ومن المعروف أن لبنان مرتبط لغاية اليوم بإثنا وثلاثون (32) معاهدة لتفادي الإزدواج الضريبي أهمها مع فرنسا وإيطاليا والإمارات وقبرص.
- الآلية الثانية هي التي تحددها وتسمح بها المعاهدة أعلاه (MAC) التي تلعب دور المعاهدة المتعددة الأطراف والتي تسمح للدول الأعضاء بتبادل المعلومات فيما بينهم غب الطلب وعفوياً وفقاً للالية التي تحددها. أما تاريخ دخولها حيز التطبيق فهو في بداية الشهر الذي يلي إنقضاء ثلاثة أشهر من تاريخ توقيع الإتفاقية وتقديم مستند قبول وتصديق العضوية موقعاً من الجهة المفوضة أصولاً.
إلا أنه لم يصار إلى الإكتفاء بذلك من قبل كل من مجموعة دول العشرين (G20) ومنظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OECD) اللتين بعيد إقرار قانون الإمتثال الضريبي الأميركي FATCA وتحت ضغط الدول الأوروبية الخمس الكبرى (G5)، أقرّت وإعتمدت سنة 2014 عن طريق ما يسمى بالمنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات معاهدة جديدة عرفّت بالإتفاقية المتعلقة بالسلطات المختصة Multilateral Competent Authority Agreements (MCAA) التي إعتمدت مبدأ التبادل التلقائي للمعلومات (automatic exchange) بين الدول الأعضاء على أساس قاعدة سنوية ومعايير موحدّة للبيانات المالية Common Reporting Standard (CRS).
غير أن تطبيق هذه المعايير وإجراء التبادل يستلزم مقدماً اتخاذ تدابير ناجعة من قبل بعض الدول الأعضاء لتعديل قوانينها وأنظمتها حيث تدعو الحاجة لكي تتلاءم مع هذا المعطى الجديد سيما لجهة تأمين الشفافية التامة للولوج إلى المعلومات وتطبيق ما يسمى بالنظر من خلال (look through) التي تسمح بالاستقصاء المعمّق لمعرفة من هم المستفيدين الفعليين من الحقوق الاقتصادية والإدارية في المؤسسات والشركات والذمم الائتمانية (Trusts) وتفنيد عدد كبير من المداخيل. وقد تجلى ذلك، وبغرض ضمان التنفيذ، باعتماد آلية للرصد والتقويم (Peer Reviews) تمتد على ثلاثة مراحل (Phases) من حيث التأكد في المرحلة الأولى بأن الدولة العضو لديها القوانين والآليات اللازمة للشفافية والتبادل الفعّال وبالتالي، في حال المطابقة، يمكن الانتقال إلى المرحلة الثانية حيث يتم التأكد من أن التطبيق العملي يسمح من خلال تلك الأنظمة والقوانين تأمين الشفافية و تنفيذ التبادل الفعّال.
وفي حال المطابقة (Largely Compliant) سيما لجهة موجب تأمين موجبي السرية وحماية المعلومات المتبادلة، يمكن عندها الإنتقال إلى المرحلة الثالثة وطلب تطبيق المعايير الموحدّة للبيانات المالية (CRS) بعد أن يكون قد تم تقديم طلب بهذا الخصوص من قبل البلد المختص للأمانة العامة لمنظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OECD) مرفقاً به عدد من الملاحق التي تؤكد إلتزامه بالمعايير والشروط كما وقائمة بأسماء الدول التي يوافق على أن يجري التبادل التلقائي معها. على أن نفاذ القانون يبدأ هذا، مع الإشارة إلى أن عدم الإلتزام بمعيار المطابقة يعرّض الدول الممانعة للإدراج على القائمة السوداء للجنات الضريبية غير المتعاونة مع حتمية تطبيق عقوبات كالإقتطاعات الضريبية لدى المنبع على التحويلات وتخفيض التصنيف الائتماني للبلد وحظر الاستثمارات كما وتقويد للتحويلات وصولاً إلى منعها.
دخل لبنان في الآتون المذكور وقد حاول المناورة بعض الشئ لحفظ السيادة وحماية نظامه الخاص الفريد وذلك، مع إقرار القانون رقم 43 الصادرة بتاريخ 26/11/2015 والذي أرثى آلية لتبادل المعلومات الضريبية وسمح لوزير المالية الانضمام الى اتفاقيات ثنائية او متعددة الاطراف لتبادل المعلومات المتعلقة بالتهرب الضريبي (Tax Evasion) او الاحتيال الضريبي (Tax Fraud) وذلك وفق الاصول التشريعية المعتمدة ومع مراعاة الشروط المحددة في القانون المذكور وأهمها ربط تبادل المعلومات الضريبية بشرط توّفر أدلة ملموسة أو أحكام مبرمة كما وتقويد حالات رفع السرية المصرفية بحالات خاصة مع إمكانية مراجعة القضاء. إلا أن ذلك تم رفضه من قبل منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OECD) التي زادت الضغط والتضييق إلى أن إستصدر مجلس النواب رزمة من القوانين المطلوبة ومنها القانون رقم 55 الصادر في 27/10/2016 الذي ألغى من جهة القانون السابق ذكره رقم 43 وحدد الأصول والإجراءات الواجبة لتبادل المعلومات الضريبية بشكل يتلاءم مع ما هو مطلوب من قبل المنتدى العالمي وفي المعاهدة المتعددة الأطراف (MAC) إذ لم يبقى من شروط لإعطاء المعلومات غب الطلب إلا شرط التوافق مع أحكام الإتفاقية الضريبية الثنائية أو المتعددة الأطراف (وفقاً للحال). كما أن هذا القانون في جزئه الثاني قد سمح من جهة أخرى بتوقيع إتفاقيتا التبادل غب الطلب والتلقائي للمعلومات ( Automatic Exchange of Information & Upon request) الآنفتي الذكر.
ومن هذا المنطلق وعلى ضوء ما تقدم من تفسير موجز يقتضي توضيح مسألتين حيويتين؛ وهما: رزنامة تطبيق القوانين والمعاهدات المذكورة آنفاً وكيفية تفادي التضارب في الأحكام من جهة، كما وتحديد الحسابات وأصحابها الذين يقتضي الإفشاء عنهم.
أولاً من المسلم به أن المعلومات المطلوب إعطائها و/أو تبادلها تتعلق بالمقيمين في إحدى الدول الأعضاء الموقعة على أي من الإتفاقيتين المذكورتين (التبادل غب الطلب والتبادل التلقائي & MCAA MAC). مع العلم أن هذا المعيار يختلف بعض الشئ بين دولة وأخرى كما وبين القوانين المحلية والمعاهدات.
وعليه، في حال تم الطلب في المرحلة الراهنة أي في الوقت الفاصل بين إقرار الإجراءات الجديدة للتبادل (تشرين الثاني 2016) ودخول المعاهدة المتعددة الأطراف (MAC) حيذ التنفيذ، فإنه يقتضي هنا التمييز بين الطلب الصادر عن بلد تربطه بلبنان معاهدة ضريبية لتفادي الإزدواج الضريبي (كفرنسا مثلاً) وعندها يطبق تعريف المقيم الوارد في المعاهدة والمرجّح على التعريف الوارد في القانون المحلي لكل دولة. وهذا التعريف الدولي هو مشترك بين جميع المعاهدات ويتضمن عبارة «مقيم في دولة متعاقدة» التي ترمز إلى أي شخص يكون، وفقاً لقوانين تلك الدولة، خاضعاً للضريبة فيها بسبب محل إقامته، أو مسكنه، أو مكان إدارته، أو بسبب أي معيار آخر ذي طبيعة مشابهة. لكن هذه العبارة لا تشمل أي شخص يكون خاضعاً للضريبة في تلك الدولة فيما يتعلق فقط بالدخل الناجم من مصادر في تلك الدولة أو رأس المال الواقع فيها. أما في حال إعتُبِر مقيماً لدى كلتا الدولتين المتعاقدتين، فعندئذ يجب أن يقرر وضعه القانوني على ضوء تطبيق المعايير التالية بالأرجحية على بعضها:
- يعتبر بأنه مقيم لدى الدولة المتعاقدة التي يتوفر له فيها منزل دائم؛
- فإذا كان لديه منزل دائم متوفر له في كلتا الدولتين، وجب اعتباره مقيماً لدى الدولة المتعاقدة التي تكون علاقاته الشخصية والإقتصادية فيها أوثق (مركز للمصالح الحيوية)؛
- إذا تعذر تحديد الدولة التي يوجد فيها مركز مصالحه الحيوية، أو إذا لم يتوفر لديه منزل دائم في أي من الدولتين، اعتبر مقيماً في الدولة المتعاقدة التي له فيها مسكن معتاد (معيار ال183 يوم إقامة)؛
- إذا كان له مسكن معتاد في كلتا الدولتين أو لم يكن له ذلك في أي منهما، اعتبر مقيماً لدى الدولة المتعاقدة التي يحمل جنسيتها؛
- إذا كان يحمل جنسية كلتا الدولتين أو لم يكن يحمل جنسية أي منهما، تسوي السلطات المختصة في الدولتين المتعاقدتين هذه المسألة بالاتفاق المتبادل؛
وبالتالي وفي حال توفرّت العناصر لإعتبار صاحب الحساب أو صاحب الحق الإقتصادي مقيماً في تلك الدولة المتعاقدة، فيتم عندها رفع السرية المصرفية عن حساباته وتطبيق الإجراءات الجديدة التي حددها القانون رقم 55 تاريخ 27/10/2016.
أما إذا جاء الطلب من دولة غير مرتبطة مع لبنان بمعاهدة ضريبية لتفادي الإزدواج الضريبي (كألمانيا مثلاً) فيمكن عندها رفض الطلب إلى حين نفاذ المعاهدة المتعددة الأطراف (MAC) وعندها يطبق تعريف المقيم الوارد في القانون الجديد رقم 60 تاريخ 27/10/2016.
وقد حددت المادة الأولى من القانون رقم 60 المعدّلة للمادة الأولى من قانون الإجراءات الضريبية رقم 44 تاريخ 11/11/2008، تعريف المقيم على الشكل التالي:
يُعتبر مقيماً في لبنان:
- كل شخص معنوي يتم إنشاؤه أو تسجيله وفقاً للقوانين اللبنانية أو لديه في لبنان مركز لمزاولة العمل.
- كل شخص طبيعي:
- لديه في لبنان مركز لمزاولة المهنة؛
- يكون بتصرفه منزل دائم في لبنان يشكل مكان سكنه أو سكن عائلته المعتاد.
- مضى على وجوده في لبنان أكثر من 183 يوماً، على التوالي أو بشكل متقطّع، خلال فترة أي اثني عشر شهراً متواصلة. ولا تحتسب ضمن فترة ال183 يوماً الفترة التي يمضيها شخص طبيعي في لبنان في حال تواجد فيهحصراً لغاية الانتقال من دولة إلى أخرى أو للخضوع لعلاج طبّيّ.
أما بعد وعند دخول الإتفاقية المتعلقة بالسلطات المختصة (MCAA) حيذ التنفيذ، فسوف يصار عندها إلى تبادل المعلومات تلقائياً بموجب المعايير الموحدّة للبيانات المالية (CRS) وفقاً لما يسمى ب Documentary Evidence (إثباتات مستندية) التي تثبت إقامة صاحب الحساب أو الحق ومنها إفادة سكن رسمية صادرة عن سلطة مختصة (وزارة، إدارة رسمية، بلدية، وإلخ.) تفيد بالشئ ومقتضاه. غير أنه يبقى متاحاً أو حتى مطلوباً متابعة عملية التتبع والتأكد الدورية لتوّفر الشروط (permanent residence address test) التي يجريها نظام المعايير الموحدّة للبيانات المالية (CRS) لتبيان وفقاً للأدلة الواردة أو المتوفرة محل أو مراكز إقامة غير مقرّ الإقامة المقدم إلى المصرف (indicia search). وإذا تبين للمصرف أن هناك تباين أو شكك في صلاحية المستندات المقدمة له وعجز صاحب الحساب في إثبات العكس، أجيز له تحويل المعلومات للدول التي تنطبق عليها إحدى المعايير الواردة في الإختبار (indicia test).
بالخلاصة، يمكن القول هنا أن السرية المصرفية بعد أن كانت مطلقة وشاملة ولا تخرق إلا بحالات جدّ نادرة ومستعصية لحظها قانون السرية الصادر بسنة 1956 (إفلاس الزبون أو الدعوى بينه وبين المصرف أو بطلب منه أو حالات أخرى لحظها أيضاً قانون مكافحة تبيض الأموال رقم 318/2001)، قد أصبحت بحكم الساقطة بالنسبة للأشخاص غير المقيمين كما وبالنسبة للأشخاص الذين تحوم حولهم الشكوك والشبهات الكبيرة وليس بوسعهم إثبات العكس لمجلس شورى الدولة. بالتالي لم يعد لبنان كما كان ملاز آمن للأموال التائهة أو الخارجة عن الشرعية الضريبية الدولية.
كما إنه وكنتيجة معاكسة لهذا التبادل لم يعود المقيم في لبنان بوضع يمكنه من إخفاء وعدم التصريح إلى الخزينة اللبنانية عن الأرصدة والأصول المتواجدة في المصارف والمؤسسات المالية الأجنبية كما والإستثمارات المالية الاجنبية. وهنا لا داعي لإعادة التذكير بأن مبدأ الإقليمية المحدد في الباب الأول من قانون ضريبة الدخل (المرسوم الإشتراعي رقم 144 تاريخ 12/6/1959 وتعديلاته) للمقيمين في لبنان، لا ينطبق لا على ضريبة الباب الثالث (رؤوس أموال منقولة من أسهم وسندات مالية أجنبية) ولا حتى على رسوم الإنتقال إذ تنص المادة 3 من المرسوم الإشتراعي رقم 146 تاريخ 12/6/1959 على أن الرسم يتناول جميع الأموال المنقولة وغير المنقولة الموجودة في الخارج والمنتقلة من لبناني مقيم في لبنان.
هذا من جهة الحسابات المصرفية وتوابعها، أما من جهة الوسائل القانونية المعتمدة لغاية تارخه لتفادي الضرائب وجذب المستثمرين أقله بالنسبة لإستعمال لبنان كمنصة لأعمالهم الإقليمية والدولية فأقل ما يقال أن المشهد هنا أيضاً قد تبدّل أو هو في طور التبدّل.
- نتائج ومترنبات القوانين الصادرة أخيراً على الأفراد والشركات سيما بالنسبة للعمليات الهادفة إلى تفادي أو التهرب من الضرائب أو تقليس عبئها عليهم.
قبل القوانين المالية الأخيرة وحتى قبل الألفية الثالثة كان النظام اللبناني بتكوينه الخاص وقوانينه المتساهلة حقل مميز لعمليات التفادي الضريبي أو التركيبات والهندسات الخاصة التي من شأنها إلغاء أو تخفيف العبء. وقد إستفاد العديد من الأشخاص المقيمين وغير المقيمين من هذه الحالة نظراً لعدة عوامل مسهلة أهمها:
- السرية المصرفية المطلقة التي كانت تخفي مصدر ومقصد التحويلات والأموال على حدٍ سواء وتحمي المودعين من أية مساءلة؛
- نظام الضرائب النوعية الذي أتاح تفادي التصريح عن إيرادات وتكليفها بالضرائب؛
- ضعف جهاز الإستقصاء والإحصاء لدى الدولة لملاحقة المكلفين المتقاعسين؛
- الحوافز الضريبية الإمتيازية والخاصة التي أتاحت التهرب “المشرعن” من الضرائب وأهمها إطلاقاً: حرية التفرغ المطلقة عن الأسهم (الإسمية ولحامله أو لأمر) دون أي إجراء رسمي (كاتب عدل) أو تكليف (إعفاء بموجب المادة 19 من القانون رقم 282/93)، كما وإعفاء البيوعات العقارية وأرباح السمسرة على أنواعها؛
- إستعمال المقيمين للقوانين والأنظمة الهادفة أصلاً إلى جزب المستثمرين لغايات ضريبية خاصة تسمح بتخفيض أو إلغاء العبء الضريبي (مثال أنظمة الهولدنغ والأوف شور)؛
- عدم وجود نظام ضرائب موحدّ على الدخل يفرض التصريح عن النفقات (حتى النثري منها) بما يسمح بكشف المكلفين المكتومين؛
- عدم وجود قيود أو رقابة فعّالة على الحدود تسمح بمراقبة الأموال والقيم ذات القيمة المرتفعة (عملة، سندات، حلى، أحجار كريمة، ذهب، تحف فنية، وإلخ.) التي كانت تسمح بتبييض الأموال.
كما وجرى أيضاً الولوج إلى وسائل قانونية مركبة تتيح عن طريق الشركات والكيانات المنشأة في عدة دول ذات الأنظمة الضريبية المتباينة من تخفيض الكلفة الضريبية إلى أدنى حدّ.
هذا فضلاً عن الذمم الائتمانية (Trusts & Foundation) التي أبقت العديد من الذمم المالية والثروات الهائلة للمقيمين خارج التكليف إن لجهة الضريبة على إيرادات الرؤوس الأموال المنقولة أو لجهة رسوم الإنتقال على التركات.
وكانت في حينه النصوص الوحيدة الرادعة هي بالنسبة للعمليات التجارية: المادة 15 من قانون ضريبة الدخل التي كانت تعيد توصيف بعض العمليات الجارية بين الشركات المترابطة (تابعة أو مشرفة على بعضها البعض) والتي كانت تنقل قسماً من ارباحها الى الخارج اما بزيادة اسعار البيع او الشراء، او بانقاصها، او بأية وسيلة أخرى (Transfer Pricing Policy) ؛ بحيث كانت هذه الفروقات تعاد إلى حساب النتيجة وتضاف عند فرض الضريبة الى الارباح المبينة في الحسابات لتكلف معها.
أما من الناحية الإجرائية فكان النص الذي يرعى حالات التقاعس والتهرب الضريبي هو المادة 108 من قانون ضريبة الدخل التي تم إلغائها وفقاً للمرسوم الاشتراعي رقم 156 تاريخ 16/9/1983الذي عاقب التملص (أي التهرب) المتعمد من دفع الضريبة كما والغش والاحتيال بغرامة مالية تتراوح بين مليون ليرة وعشرة ملايين ليرة أو بالسجن من ستة أشهر إلى سنة. كما كان يعاقب أيضاً كل تخلف أو تأخر عمداً عن تسديد كامل قيمة الضرائب والرسوم المقتطعة من الغير لحساب الخزينة أو عائدة للدولة (إساءة أمانة) بالغرامة لغاية عشرين مليون ليرة أو بالسجن من ثلاثة أشهر إلى سنة. إلا أنه نادراً ما كان يُطبق هذا القانون كونه كان يقتضي إثبات النية السيئة.
هذا، وبنتيجة مسعى الدول المتقدمة بدءاً من العام 1998 لمحاربة حالات التهرب والتفلت الضريبيين التي أثرت سلباً على اقتصادياتها وماليتها كما وتفشي ظاهرة الإرهاب، ألزم لبنان، تحت ضغط منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OECD) ومجموعة العمل المالي (GAFI)، بإستصدار قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 318 تاريخ 20/4/2001 الذي حدد إطارا للأموال غير المشروعة بتعريفها ومكافحة تبييضها بأي وسيلة من الوسائل الملحوظة في القانون مع فرض موجبات على المصارف وبعض المؤسسات كتلك التي تفرض عليها ان تمسك سجلات خاصة بالعمليات التي تفوق قيمتها مبلغ يحدده مصرف لبنان كما والتحقق من هوية الزبائن وعناوينهم وحفظ المستندات وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة المنشأة بوجب هذا القانون عن تفاصيل العمليات التي يشتبهون بانها تخفي تبييض اموال.
وقد تزامن صدور هذا القانون مع صدور القانون رقم 379 تاريخ 14/12/2001 الذي ضيّق الخناق على المكلفين بزيادة موجبات التصريح والتدقيق واستصدار الفواتير التي من شأنها المساعدة على ضبط المخالفين والرقابة المتبادلة بين العلاء بسبب المصالح المتناقضة.
أما التغيير المحوري المهم فقد جاء مع قانون الإجراءات الضريبية الجديد رقم 44 تاريخ 11/11/2008 الذي أوضح وثبت الموجبات وأوجد مادة خاصة تسمح بإعادة توصيف العمليات ومحاربة ظاهرتي التهرب والتفلت الضريبيين. وهذه المادة هي المادة 10 التي سمحت للإدارة الضريبية أن تعيد توصيف العمليات الصورية أو القانونية في الشكل من أجل التهرب من الضريبة. كما أنها سمحت للإدارة بتعديل قيمة العمليات وشروطها التي تتم بين أشخاص مترابطين (سلطة الإدارة أو التوجيه) على أساس قيمة وشروط حصلت في عمليات مشابهة بين شخصين مستقلين وضمن شروط تنافسية كاملة. وقد ذهب المرسوم التطبيقي رقم 2488 تاريخ 3/7/2009 أبعد مع تعريفه التهرب الضريبي بحيث اعتبر على أنه: “كل عمل ينتج عنه تخفيض أو إلغاء للضريبة، أو تأجيل لتاريخ استحقاقها، أو زيادة في قيمة الضريبة المطلوب تنزيلها أو استردادها، دون وجه حق…وسيما إخفاء الغاية الحقيقية بغية تخفيض القيمة الضريبية المتوجبة أصولا على العملية الفعلية“. مع تحديد نسبة 20% من القيمة السوقية لكشف العمليات الصورية. ومنذ ذلك الحين نشطت الأجهزة الضريبية وأعادت توصيف وتكليف الكثير من العمليات.
هذا، وبنتيجة الجهود والضغط الدوليين الناتجين عن المنتدى العالمي جرى إستصدار رزمة من القوانين الجديدة بين 24 و26 تشرين الثاني سنة 2015 (قوانين الضرورة) لتفادي تجرّع كأس وضع لبنان على القائمة السوداء للبلاد الموصوفة كجنات ضريبية غير متعاونة. ومن ضمن هذه القوانين:
- القانون رقم 42: الذي أوجب التصريح عن نقل الاموال بصورة إلزامية بالنسبة للأموال القابلة للتداول التي تفوق قيمتها الخمسة عشرة ألف دولار أميركي (15,000د.أ) ومنها الاوراق النقدية والقطع المعدنية قيد التداول، بالعملة اللبنانية او بأية عملة اخرى والسندات المالية والتجارية وبطاقات الدفع (Prepaid Card)، وإلخ. مع موجب التصريح والإفصاح عن معلومات تفصيلية عن كل من يملك الاموال القابلة للتداول الجاري نقلها ومن يقوم بنقلها ومن سيستلمها وعن قيمة هذه الاموال ونوعها ومصدرها ووجهة استعمالها. وفي حالة الاشتباه بأن الاموال الجاري نقلها هي اموال غير مشروعة بمفهوم القانون رقم 318/2001، يتم حجز الاموال وتنظيم محضر بذلك بعد اعلام النيابة العامة التمييزية وهيئة التحقيق الخاصة بذلك.
- القانون رقم 43: الذي سمح لوزارة المالية اللبنانية بتبادل المعلومات المتعلقة بالتهرب الضريبي (Tax Evasion) او الاحتيال الضريبي (Tax Fraud) كما وبعض المعلومات المشمولة بقانون السرية المصرفية وذلك وفق الاصول المحددة في هذا القانون. غير أنه، وبسبب تقويد حالات إعطاء المعلومات واشتراط ربط تبادل المعلومات الضريبية بأدلة ملموسة أو أحكام مبرمة وإعطاء حق تقديري لهيئة التحقيق الخاصة برفع السرية المصرفية مع إمكانية مراجعة القضاء، جرى رفض هذا القانون من قبل المراجع الدولية المختصة؛ مما أدى إلى إلغائه واستبدال آليته وإجراءاته بتلك المحددة بوجب القانون الجديد رقم 55 تاريخ 27/10/2016.
- القانون رقم 44: الذي عدّل القانون رقم 318 مضاعفاً حالات تبيض الأموال من 7 إلى 21 حالة وسيما مع إضافة حالة التهرب الضريبي وتجريمها بالنسبة للفاعل والمحرّض والمسهل والمشترك والمتدخل ومعاقبتهم بالغرامة المالية القوية (مثلي مبلغ المهرب) والحبس من ثلاثة (3) إلى سبع (7) سنوات كما ومعاقبة بعض الأطراف المهنيين مثل كتاب العدل والمحامين والمحاسبين المجازين والوسطاء في لم يعمدوا إلى تطبيق إجراءات العناية أو لم يبلّغوا وفقاً للأصول هيئة التحقيق الخاصة عن كل حالة مشبوهة أو مشكوك بأمرها، بالحبس من شهرين للسنة بالإضافة إلى الغرامة؛ مع الإشارة إلى أن القانون المذكور قد شمل ضمن تعريف الأموال غير المشروعة الوثائق والمستندات القانونية التي تثبت حق ملكية والناتجة عن إرتكاب أو محاولة إرتكاب تهرب ضريبي كما وعملية التحويل أو الإخفاء سيما عن طريق بيع وشراء العقارات و/أو تنظيم المساهمات وإنشاء الشركات أو أي بنية قانونية خاصة وإدارتها (مما يوحي إلى الTrust هنا).
- المرسوم رقم 3065 الصادر بتاريخ 12/3/2016: الذي يرمي الى تنظيم الجرد العام للآثار القديمة المنقولة والذي جاء تطبيقاً للقانون رقم 37 تاريخ 16/10/2008 على الممتلكات الثقافية. وأهمية هذا المرسوم تكمن في أنه قد نظم اصول التصريح عن الآثار القديمة المنقولة وتثبيت ملكيتها وضبط عمليات نقلها من وإلى لبنان أو التفرغ عنها. وهذا ما من شانه أن يصّعب مهمة الأشخاص الراغبين في تبييض الأموال من خلال تسييل الحقوق وشراء أموال وتحف كهذه.
- القانون رقم 55 تاريخ 27/10/201: الذي، كما أسلفنا ذكره، ألغى من جهة القانون رقم 43 وحدد الأصول والإجراءات الجديدة الواجبة لتبادل المعلومات الضريبية بشكل يتلاءم مع ما هو مطلوب من قبل المنتدى العالمي وفي المعاهدة المتعددة الأطراف (MAC) إذ لم يبقى من شروط لإعطاء المعلومات غب الطلب إلا شرط التوافق مع أحكام الإتفاقية الضريبية الثنائية أو المتعددة الأطراف (وفقاً للحال). كما أن هذا القانون في جزئه الثاني قد سمح للحكومة من جهة أخرى بتوقيع اتفاقيتا التبادل غب الطلب والتلقائي للمعلومات (Automatic Exchange of Information & Upon request) الآنفتي الذكر مع حق تفويض وزير المالية بالتوقيع.
- القانون رقم 60 تاريخ 27/10/2016: الذي عرّف بالمقيم كما تم تبيانه آنفاً مع إعتماد معيار موحدّ وجامع للمقيم يطبق في جميع النصوص الضريبية النوعية دون إستثناء ومنعاً لأي استنسابية في التطبيق أو تجاوزات. هذا، وقد عدّل هذا القانون أيضاً أحكام أخرى من قانون الإجراءات الضريبية رقم 44 تاريخ 11/1/2008 لجهة تحفيز الشفافية وتمكين الإدارة من الولوج السريع والمشروع إلى أية معلومات قد تطلب منها في سياق الطلبات الناتجة عن تبادل المعلومات؛ فضلاً عن تشديد الرقابة والتضييق للوصول إلى حوكمة رشيدة.
- القانون رقم 74 تاريخ 27/10/2016: الذي فرض موجبات ضريبية على الأشخاص المقيمين في لبنان الذين يمارسون نشاط الTrustee بصورة مهنية أو غير مهنية لTrust أجنبي (التصريح عن النشاط والإيرادات السنوية المحققة، إقتطاع الضريبة لدى المنبع، الخضوع لنظام الربح الحقيقي، مسك السجلات، إلخ.) وإنما دون تعريف الTrustee أو الTrust مما يوحي بأن الهدف الخفي هو محاربة ظاهرة حيازة الأسهم عن طريق أشخاص مستعاريين (Portage/Nominee) المنتشرة بصورة ملحوظة لغاية اليوم في لبنان رغم اضمحلالها في العالم. وإن هذا الواقع الجديد سوف يلزم المهنيين من محامين وسواهم تحت طائلة الملاحقة القضائية المدنية والجزائية برفض الولوج بعد اليوم لهذه الوسائل والتركيبات…إلا في حال أرادوا تحدي الشرعيتين المحلية والدولية.
- القانون رقم 75 تاريخ 27/10/2016: الذي ألغى الأسهم لحامله والأسهم لأمر نهائياً من المشهد اللبناني مع إعطاء سنة للشركات لتسوية الوضع مع موجب تعديل أنظمتها قبل عقد أية جمعية عمومية بموضوع مغاير وموجب إعلام حاملي الأسهم بذلك عن طريق النشر في الجريدة الرسمية والصحف المحلية والموقع الإلكتروني للشركة تحت طائلة تحمل غرامة تعادل 50% من رأس المال.
أما السؤال الذي يطرَح نفسه على ضوء كل ما تقدم، فهو معرفة ما إذا كان المشهد الجديد الناتج عن التشريعات المفروضة يشكِل نكبة وخسارة كبيرة للبنان أم إنه لربما شكل نعمة قد يستفاد منها إذا ما أحسنا التصرف؟
جوابي الشخصي على هذا السؤال هو اليقين والإحساس بأن تلك القوانين لربما قد تشكل حافز كبير لترشيد الأعمال وتقوية الشفافية وإعطاء صورة حسنة ومستقرة عن لبنان تبين واقعه ونقاط القوة لديه سيما بالنسبة لطاقاته المقيمة والاغترابية ومواهبه الخلاقة التي قد تساعد على إجتراح الحلول والوسائل القانونية للوصول إلى نفس الهدف والمبتغى.
كيف؟
بكل بساطة عن طريق السعي لتأمين الأرضية اللازمة والاستقرارين الأمني والتشريعي لتحفيز الإستثمار وسبل الإقامة في لبنان لأصحاب الرساميل الين قد يستفيدوا من تعريف المقيم الفضفاض الذي إستحدثه القانون العتيد رقم 60 كما ونسبة الضرائب المباشرة المتدنية المطبقة لغاية هذا التاريخ في لبنان مقارنةً مع سواه من البلدان. وهذا غيض من فيض مما يمكن القيام به والذي لا يتسع هذا المنبر لتفصيله أو ذكر سواه.
المحامي كريم ضاهر