(نُشر هذا المقال في جريدة “النهار” في 14/3/2019)
المحامي زيـاد بـارود
وزير الداخلية والبلديات الأسبق
رئيس مجلس أمناء الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين (ALDIC)
“إذا كان وضعنا في الحضيض، فالحق ليس على النجوم” (شكسبير)
لست خبيراً في الكهرباء وتقنياتها ولا في الطاقة وأحوالها. لكنني واحدٌ من مواطنين كُثر يسدّدون الضرائب ويساهمون تالياً، من حيث يدرون أو لا يُعلًمون (بضمّ الياء، نظراً إلى غياب قطع الحساب)، بتمويل عجز الكهرباء المزمن. هؤلاء المواطنون هم أنفسهم الذين باتوا لا يلعنون الظلمة بعدما اعتادوها، وباتوا أيضاً لا يلعنون الساعة التي أتوا فيها ببعض الطبقة السياسية، وكأنهم في استسلام كلّي لأمرٍ واقعٍ عمره عقود. لا يجوز التعميم قطعا، إنما لا يجوز أيضاً التعتيم على ما آلت إليه الأمور، وقد أصبحنا في قعر القعر، ليس لأننا في عجزٍ علمي وتقني وفني، بل لأن القرار السياسي استمر مدى عقود عاجزاً عن الحسم، وبعض أربابه يناكف والبعض الآخر يكابر والبعض الأخير يستفيد، فيما بعضٌ يحاول…
أما كلفة الانتظار العالية، فمن جيوب مواطنين ومواطنات خذلتهم دولتهم في الظلمة وغالباً ما سرقت في النهار حقّهم عليها بخدمات الحدّ الأدنى. ومع ذلك، استمرّوا يأملون في كسر حلقة المراوحة وإحداث خرقٍ ما في جدار ممانعة إصلاح قطاعٍ حيوي، يمكن أن يتحوّل سريعاً إلى قطاعٍ ربحي.
في ما يلي، قراءة في الأرقام (حيث توفّرت) وقراءة في الحلول (حيث كَثُرت) وقراءة في مستقبل القطاع (حيث تجدّد). أما الهدف من القراءة المتعددة المفاصل والأبعاد، فمزدوج: تعميم المعلومة على عموم الناس، وهذا حقّهم، من جهة، وتحميل مسؤولية الانتظار وكلفته لمن مانع ويمانع في إعطاء هذا الحق، من جهة أخرى، مع ضرورة دعم كل من يجهد لكي يقتصر الاستهلاك على الطاقة، لا أن يستمرّ استهلاكاً للخزينة ولجيوب المكلّفين.
في دراسةٍ له عام 2014، وقبل سنوات من تولّيه الوزارة، كتب وزير الاقتصاد منصور بطيش: “لو حُلّت مشكلة الكهرباء في أواسط التسعينات لكان حجم الدين العام انخفض من حوالى 68 مليار دولار أميركي إلى 41 مليار دولار أميركي بنهاية العام 2014″، مفنّداً الانعكاسات السلبية على الاقتصاد والنموّ.
وبالفعل، بين عامَي 1992 و2018، بلغت تحويلات مؤسسة كهرباء لبنان حوالى 23 مليار دولار، تُضاف إليها كلفة التمويل، فيصبح المجموع بحدود 40 ملياراً، أي ما يوازي 46% من الدين العام الإجمالي! وبين كلفة الإنتاج والنقل وعدم شمولية الجباية، تحتاج المؤسسة، عند إشراقة كل صباح، إلى دعمٍ حكومي بحوالي 5 ملايين دولار أميركي لتأمين حوالى 1.5 جيغاواط فقط (أي 50% من طلب السوق وحاجته) بعد خسائر النقل والتوزيع.
لماذا تخسر “كهرباء لبنان”؟
يشير الخبراء إلى أن الكلفة المباشرة للانتاج هي حالياً بمعدل 16 سنتا للكيلواط (مع صعود وانخفاض بحسب سعر برميل البترول عالمياً). وإلى هذه الكلفة، يُضاف واقع أن المؤسسة تخسر حوالى 38% من الإنتاج بفعل الهدر الفني وسرقة التيار الكهربائي وتعذّر الجباية. وإذا ما أضفنا كلفة التشغيل (الرواتب والصيانة وسواها من المصاريف)، تتخطى عندها كلفة الكيلواط الإجمالية 22 سنتاً، في مقابل تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان الوسطية 9.53 سنتات!
عام 2018، استطاعت “كهرباء لبنان” أن تغطي حوالي 1.5 جيغاواط من الحاجة الاجمالية للاستهلاك البالغة ضعفي هذا الرقم. أما الفارق، فأمنته المولدات الخاصة بكلفة وسطية مقدارها (إعتباراً من تشرين الأول) 28 سنتاً. وهذا يعني أن الكلفة الاجمالية على كاهل المستهلك قد بلغت مجموعاً مقداره 6.4 مليارات دولار أميركي، موزعة كما يلي: 0.9 مليار (مداخيل جباية كهرباء لبنان) + 1.8 مليار (عجز كهرباء لبنان) + 3.7 مليارات (كلفة المولدات الخاصة لتأمين 1.5 جيغاواط الموازية لعجز التغذية لدى كهرباء لبنان)، أي ما يعادل 24.3 سنتا للكيلواط الواحد. وبطبيعة الحال، فاقم النزوح السوري الأزمة، إذ قدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) زيادة الاستهلاك بحوالي 480 ميغاواط.
إلى كل ذلك، يعتبر الخبراء أن تشغيل بعض معامل الانتاج (ولا سيما منها الزوق، الجية والبواخر) بواسطة الفيول (HFO)، بالإضافة إلى كلفته العالية الاقتصادية، إنما يؤدي إلى تداعيات على صحة المستهلك تتخطى الأرقام والكلفة المالية، إذ حلّ لبنان في المرتبة الخامسة عربياً بين أكثر البلدان تلوثاً وحلّت مدينة جونيه في المرتبة الـ23 بين أكثر المدن تلوثاً في العالم! وقد اعتبرت دراسة حديثة للجامعة الأميركية في بيروت أن تلوث الهواء بات يخفّض متوسّط عمر اللبنانيين بنسبة 25%!
المعالجات: قديمها وجديدها
“خطة الكهرباء” تعبيرٌ نسمعه يتردّد منذ سنوات (ووعود 24/24 تغذية بقيت قائمة من دون “انقطاع” منذ 1992). وقد راكم مسؤولون كُثر خططاً وبرامج كانت تصطدم دائماً بالعامل السياسي وأحياناً بعوائق التمويل. آخر الخطط أُعلن عنها عام 2010 وقد راجعتها مجموعة من الخبراء العالميين تقنياً وبيئياً وحديثاً مجموعة البنك الدولي عام 2018 في إطار مؤتمر “سيدر”. وقد اعتبر كثيرون أن إصلاح قطاع الكهرباء هو بوابة عبور أساسية لمعالجة النظرة السلبية إلى الاقتصاد اللبناني. وفي هذا السياق، ورد في تقرير Standard & Poors الصار في 1/3/2019: “يمكننا إعادة النظر في التصنيف إلى مستقر إذا كانت الحكومة اللبنانية قادرة على تقديم إصلاحات أساسية إقتصادية وضريبية من شأنها تفعيل النمو الاقتصادي وخفض مستويات الدين على المدى المتوسط، بما في ذلك مقاربة الثغرات وقصور الفاعلية في قطاع الكهرباء”.
وفي إطار “سيدر”، التزمت الحكومة اللبنانية القيام بإصلاحات أساسية في القطاع، تشمل:
1- إنشاء معامل جديدة بالطاقة التقليدية كما بالطاقة المتجددة على السواء، بالشراكة مع القطاع الخاص. وسيتيح قانون الشراكة مجالات تعاون وتمويل واسعة النطاق، شرط أن تأتي ضمن معايير الشفافية والحوكمة.
2- تنفيذ المخطط التوجيهي للنقل (وقد أقر في مجلس الوزراء) مع تحسينات في الشبكة وإيجاد حل لمسألة المنصورية العالقة.
3- معالجة مشاكل التوزيع من خلال الاستثمار في العدّادات “الذكية” التي من شأنها ضبط الجباية وسرقة التيّار الكهربائي.
4- الانتقال إلى الغاز الطبيعي الذي من شأنه خفض فاتورة الفيول بنسبة تراوح بين 20 و30%، إضافة إلى خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وانبعاث الجسيمات وأكاسيد النيتروجين والكبريت بصورة كبيرة.
5- إعادة النظر في التعرفة التي هي اليوم أدنى من متوسّط الكلفة العالمي (9.53 سنتات مقابل 19 سنتاً). غير أن الحديث عن رفع التعرفة لا يمكن إطلاقاً أن يتم في موازاة كلفة موازية يتحملها المستهلك هي كلفة الموادات (28 سنتاً). وبالتالي، فإن هذا الأمر معلّق ومرتبط برفع التغذية إلى 24/24 بحيث تنعدم الحاجة إلى المولدات. عندها، وعندها فقط، يمكن مقاربة موضوع التعرفة. وفي هذه الأثناء، يقتضي توفير الأموال اللازمة لتمكين “كهرباء لبنان” من تأمين تلك التغذية والجباية ووقف الهدر الفني.
إلى ذلك، لا بد من تشكيل الهيئة الناظمة المنصوص عليها في القانون 462 وتحديث عمليات وأنظمة “كهرباء لبنان”، مع مجلس إدارة فعّال يديرها على أسس “تجارية” (بمعنى تأمين الربحية)، بعد النظر في مؤشرات الكلفة فيها.
وإذا كانت الكلفة الإجمالية للمرحلة الإصلاحية الأولى بين 3.5 و4 مليار دولارات أميركي (بحسب أوراق “سيدر” – CIP) يتحمّل القطاع العام سدسها تقريبا (500 مليون دولار)، فإن كلفة الانتظار والمراوحة والممانعة إنما هي أضعاف أضعاف تلك الكلفة. لم يعد الوقت متاحاً لإعادة النظر في خططٍ فيها ما فيها من ثغرات، ربما، ولعلّها تحمل ما تحمل من إيجابيات. الوقت بات ترفاً لا يمكن تحميله للّبنانيين ولخزينة الدولة الممولة من جيوبهم ومن جيوب أولادهم من بعدهم!
بالأرقام فقط، وبموضوعية، يبدو واضحاً وجلياً الوفر الذي يمكن “كهرباء لبنان” أن تحققه، فيما لو وُضع قطار تطويرها على السكة، اليوم وليس غداً. فتأجيل الحلول المزمن في معامل الزهراني وسلعاتا ودير عمار، على سبيل المثال، والتي تولّد 35% من إنتاجها باستخدام البخار، قد أدّى ويؤدي سنوياً إلى فقدان فرصة تحقيق وفر مقداره 300 مليون دولار لكل 570 ميغاواط في تلك المعامل.
الطاقة المتجددة وتجديد الذهنيات
بانضمامه إلى اتفاق باريس حول التغيّر المناخي، التزم لبنان الوصول إلى 30% من الطاقة المتجددة بحلول سنة 2030. لا شك في أن هذا الالتزام هو طموح وواقعيته تبقى مرتبطة بإجراءات وحوافز لا بد من العمل عليها. وفي ذلك كسبٌ كبير للبنان، إن على مستوى خفض حاجته للاستيراد (وبالتالي خفض ميزان المدفوعات) أو على مستوى بيئته المأزومة وتحسين نوعية الهواء. حتى إذا ما انتهى التنقيب عن النفط والغاز إيجاباً، يبقى الركون إلى الطاقة البديلة مكسباً ويتم تصدير النفط والغاز تعزيزاً لواردات الخزينة والصندوق السيادي.
في تشرين الثاني 2017، مُنحت ثلاث رخص للطاقة الهوائية (227 ميغاواط) بسعر 10.45 سنتات للسنوات الثلاث الأولى و9.6 سنتات للسنوات اللاحقة (مقارنةً بكلفة إنتاج حالية مقدارها 16 سنتاً للكيلواط)، بحيث ستكون الطاقة المتجددة الهوائية أرخص مصادر الطاقة لـ”كهرباء لبنان” التي ستتمكن من توفير 55 مليون دولار سنوياً لكل 100 ميغاواط. وإلى منافعها البيئية الأكيدة، ستحمل هذه المشاريع استثمارات تقدّر بحوالى 350 مليون دولار وستوجد فرص عمل وترفع مستوى البنى التحتية والطرقات، ولا سيما في محافظة عكّار.
وتشير معلومات إلى أن وزارة الطاقة والمياه في صدد إطلاق تراخيص لأحد عشر موقعاً لإنتاج الطاقة الشمسية في كل لبنان بما مجموعه 180 ميغاواط، وبكلفة إنتاج مقدّرة بحدود 8 سنتات للكيلواط، كما إطلاق مناقصات لأكثر من 1000 ميغاواط في مشاريع لإنتاج الطاقة الشمسية والهوائية والمائية.
مدة الانتظار
كل الخطط والسيناريوات التي سبق الكلام عنها تبقى قاصرة عن إحداث الخرق المطلوب إذا استمرّ التأجيل. فعقارب الساعة تحمل مع دورانها تعاظم العجز والمديونية واستمرار التغذية بما دون المقبول. لكن الاستعجال لا يعني التسرّع في ما يعود إلى المناقصات وشفافيتها واعتمادها أعلى معايير الجودة والحوكمة (governance). وهذا كلّه ممكن في زمن الحديث المعمّم عن مكافحة الفساد وفي زمن إشراك مؤسسات التمويل الدولية والقطاع المصرفي في التمويل وفي ظل تفعيل أجهزة الرقابة. وعليه، وإذا ما بدأ العمل الجاد للتلزيم، ونظراً إلى الوقت الذي يستلزمه التمويل والبناء وإجراءاتهما، سيبقى عجز “كهرباء لبنان” بمعدّل 1.5 جيغاواط لثلاث أو أربع سنوات. ولا بد تالياً من تغطية هذا العجز، مثلاً، باستخدام الطاقة الموقتة لتحل محل استخدام المولدات الخاصة المرتفعة الثمن والملوثة وذلك فقط وفي موازاة وضع الحل الطويل الأجل موضع التنفيذ، حتى لا يصبح الحل الموقت هو الحل الدائم، كما هي العادة…
وبذلك، يمكن “كهرباء لبنان” أن تتحول إلى مؤسسة تحقق أرباحاً بعد خمس أو ست سنوات. والأهم، سيكون في مقدور المستهلك أن ينعم بأربع وعشرين…
وفي الموازاة، لماذا لا تفرض الحكومة في دفاتر الشروط العائدة إلى مشاريع يشترك فيها القطاع الخاص بما لا يقل عن 20%، إدراج تلك المشاريع في بورصة بيروت، فتفعّل هذه وتُعزّز الشفافية؟
وقف النزف
ملايين المواطنين والمواطنات، غير المعنيين بالتسييس والخلاف، كلّهم في الظلمة واحد. ومن محاسن الكهرباء، إلى نورها، أنها لا تميّز بين الطوائف المضيئة والمناطق المعتمة والأحزاب المستنيرة. الكلّ ضحية الانتظار. أما وقد وعدت الحكومة في بيانها الوزاري بما وعدت به (ونريد أن نصدّقها)، إلاّ أن الخشية تبقى في ضياع فرصةٍ أخرى… وتضييع الفرص على اللبنانيين هو فساد أيضاً!
قد لا تكون خطة الحكومة مثالية وقد ينتقد بعضنا جزئيات منها. لكنها هنا وقد استغرقت سنوات من البحث والتدقيق داخلياً ودولياً. أياً تكن ثغرات الخطة، يبقى التوافق حولها قادراً على تحصينها وتطويرها ومعالجة ثغراتها. أما الانتظار، فمكلفٌ للغاية وعقارب الانتظار تجرف ملايين الدولارات يومياً من الخزينة، عجزاً وخسارةً وفرصا مسلوبة.
العبرة في التنفيذ…
في المحصّلة، وفي معرض أية خطة، تبقى العبرة في تنفيذها (وفي كيفيته وشفافيته) كما في الزمن المرصود لإنجازها. وتأتي المحاسبة في ضوء ذلك، ولو تأخّرت سابقاً. لنَدَع الأفكار المسبقة جانباً لبعض الوقت فقط، ولنحاسب المرتكب إذا ما فسد وليُرجَم وليُشهّر به وليُحاكم ويُسجن، وإنما في المقابل، فلنعترف بجرأة لمن أصاب في أدائه، ونعطه عندها علامة 24/24.