زيـاد بـارود
يأتيك في عالم الدستور من يفتي، ولو في معرض وضوح النص، تماما كما يأتيك في عالم المال من “يتفذلك” في الأرقام. المشترك بين هذا وذاك أن الاثنين في غربةٍ عن واقعٍ يدكّ أسوار بيوت الناس، وهنا بيت القصيد، في زمن الموازنة المؤجّلة وقطع الحساب المنسي: هل تستطيع حكومة تصريف الأعمال أن تناقش وتقرّ مشروع الموازنة؟ الجواب بالإيجاب، بل بصيغة الوجوب، لا الجواز، للأسباب التي سيلي ذكرها.
فالموازنة، بالتعريف المبسّط، هي الإجازة للحكومة بالجباية والإنفاق، وهي إجازة تشريعية تصدر بقانون عن المجلس النيابي، بعد مناقشة مشروع الموازنة الذي تعدّه وتقرّه وترسله إليه الحكومة. والعبرة في صيغة القانون أن يكون ممثّلو الشعب (نظريا وحيث يصح ذلك) قد وافقوا على المضمون. ولأن الموازنة سنوية، فقد نصّ الدستور على مهل وأصول، بحيث من المفترض مبدئيا إنجازها وإقرارها قبل نهاية العام، حتى تتمكّن السلطة الإجرائية، أي الحكومة، من الإنفاق والجباية تبعا لتلك الإجازة. أما أن تكون الموازنة قد غابت منذ 2005، لتعود في 2017، فأمرٌ واقع لا يغيّر في أن مخالفة دستورية قد ارتكبت وفي أنها ترافقت مع مخالفة أخرى دستورية عندما أقرّت ونُشرت موازنات 2017 وما يليها قبل موافقة المجلس النيابي على حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة (أي قطع الحساب)، على ما تفرضه وجوبا المادة 87 من الدستور.
وعلى الرغم من المخالفة لجهة غياب قطع الحساب المزمن والمتمادي، فإن العودة إلى إقرار الموازنة كانت أمرا حميدا، وإنما يبدو أن “الفرحة” لم تدم، لأن ثمة مهل دستورية تم تخطيها مؤخرا ودخلنا في دوّامة “القاعدة الاثني عشرية” ذاتها التي حكمت الإنفاق والجباية طوال سنوات. وقد وردت هذه المهل الملزمة في المادتين 32 و83 من الدستور، بوضوح كلّي، حيث نصّت الأولى على أن العقد العادي لمجلس النواب، الذي يبدأ في تشرين الأول، “تخصّص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر وتدوم مدة العقد إلى آخر السنة”. أما المادة 83، فنصّت على تقديم الحكومة الموازنة لمجلس النواب في بدء عقد تشرين الأول. وخلاصة ذلك أن ثمة مهلة محددة لتقديم الموازنة كما ولإقرارها، وهي مهلة يمكن أن تمدّد فقط حتى آخر الشهر الأول من السنة، وفق المادة 86 من الدستور التي سمحت بفتح عقد إستثنائي لمتابعة درس الموازنة في حال لم تقرّ بحلول آخر العام، وعندها تُجبى الضرائب والرسوم خلاله وتؤخذ ميزانية السنة السابقة أساسا، وتكون نفقات شهر كانون الثاني على القاعدة الإثني عشرية. أما المفارقة، فصدور القانون 213 تاريخ 16/1/2021 الذي أجاز للحكومة جباية الواردات كما في السابق وصرف النفقات على القاعدة الإثني عشرية، من أول شباط ولغاية صدور قانون موازنة 2021! أي حتى أجلٍ غير مسمّى!
كل ذلك حصل ويحصل في الجمهورية ودستورها، في وقتٍ يجوز السؤال عن السبب الذي حدا بالحكومة إلى عدم إقرار مشروع الموازنة وإرساله إلى المجلس النيابي “في أول عقد تشرين الأول”، على ما يقول الكتاب (علما بأن وزير المالية قد أحال مشروع الموازنة إلى رئاسة الحكومة، وحسنا فعل، ولو متأخرا). على هذا السؤال يأتي جواب الامتناع المُفتَرَض، مزدوج: يزعم البعض أن حكومة تصريف الأعمال لا تستطيع إقرار مشروع موازنة، من جهة، وأن هذه الحكومة لا تستطيع أن تجتمع، حتى ولو أرادت إقرار مشروع الموازنة، من جهة أخرى. فما حقيقة الأمر؟
من الواضح أن الحكومة المستقيلة، أو المعتبرة كذلك، لا يسعها ممارسة صلاحياتها إلاّ بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال، على ما ورد صراحة في الفقرة 2 من المادة 64 من الدستور. وإذا كان هذا “المعنى الضيّق” غير محدّد، لا في الدستور ولا في أي نصّ تشريعي، فإن تفسيرا واضحا قد أعطي له في اجتهاد مجلس شورى الدولة، لاسيما في قرار مبدئي صدر عام 1969 (القرار رقم 614 تاريخ 17/12/1969 – راشد/الدولة)، وميّز بين:
– من جهة، الأعمال الإدارية العادية التي يجوز إتمامها تأمينا لحسن سير المرفق العام ولتسيير الأعمال اليومية، وهي جائزة في فترة تصريف الأعمال طالما هي محصورة بذلك.
– ومن جهة أخرى، الأعمال التصرفية التي تنطوي على أعباء جديدة أو اعتمادات مهمة أو تغيير جوهري في سير المرفق العام، وهي محظّرة في فترة تصريف الأعمال.
لكنّ القرار المذكور أضاف مشيرا إلى “تدابير الضرورة التي تفرضها ظروف إستثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي والأعمال الإدارية التي يجب إجراؤها في مهل محددة تحت طائلة السقوط والإبطال”. إنطلاقا من هذا التعليل وربطه بالمهل المحددة، نعود إلى الموازنة: فهذه الأخيرة واجبة الإقرار قبل 31/12 من كل سنة، مع إمكان تطبيق القاعدة الإثني عشرية في الشهر الأول من السنة، عملا بالمواد 32 و83 و86 من الدستور التي نصّت على تلك المهل. وهذا يعني أن إعداد الموازنة (من قبل وزارة المالية) ورفع المشروع إلى مجلس الوزراء للمناقشة والإقرار، ومن ثم إرسال المشروع إلى المجلس النيابي في بدء عقد تشرين الأول، إنما هي إجراءات ملزمة وترتبط بمهل دستورية واضحة، إضافة إلى أن الموازنة تتعلّق، عموما، بالنظام العام. وعلى ذلك، فإن على مجلس الوزراء، ولو في حكومة تصريف الأعمال، موجب دستوري يرتبط بمهل ويدخل ضمن مفهوم “تدابير الضرورة” التي أشار إليها اجتهاد مجلس الشورى.
ولا يُردّ على ذلك بأن من شأن السير في هذا الاتجاه تقييد الحكومة اللاحقة، وفق ما اشترط أحد قرارات مجلس شورى الدولة الذي حظّر، في تصريف الأعمال، “التدابير التي ليس من شأنها تقييد حرية الحكومة اللاحقة في انتهاج السياسة التي تراها أفضل” (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 700 تاريخ 15/5/1995-هنود/الدولة)، لسبب بسيط، وهو أن مشروع الموازنة يخضع، قبل أن يصبح قانونا، لتمحيص المجلس النيابي، حيث اشترطت المادة 83 من الدستور أن يتم الاقتراع على الموازنة بندا بندا. وبذلك تبقى الضمانة في المجلس النيابي، في حال تخطّت حكومة تصريف الأعمال في مشروعها حدود ما هو ملحّ في النفقات وما هو ضروري في الواردات.
أما مسألة اجتماع مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال، فلا تطرح أية إشكالية دستورية، إذ صحيح أن اجتماعه يبقى إستثنائيا وغير محبّذ بصورة دورية، إلاّ أن هذا الاجتماع يبقى ممكنا دستوريا، في غياب النص المانع، ويبقى ضروريا دستوريا في ظل المهل المفروضة لانتظام المالية العامة، إضافة إلى أن ثمة سوابق عديدة اجتمع فيها مجلس الوزراء في فترة تصريف الأعمال وببند وحيد على جدول الأعمال، كما حصل، مثلا، في حكومة الرئيس ميقاتي حال تعيين رئيس وأعضاء هيئة الإشراف على الانتخابات لارتباط هذا التعيين بمهل في قانون الانتخاب.