لعلّ في المثل الشائع والقول المأثور “الشيطان يكمن في التفاصيل” الكثير من الحق والواقعية. إنما في طياته أيضاً تفسير معاكس يُتيح أحياناً من خلال التمعن والغوص في تلك التفاصيل إجتراح الحلول وإستخراج التسويات التي لم تتظاهر بوضوح للملاء في البدء….
وفي هذا السياق من النافع التوقف عند الحرب الضروس والعاصفة الضريبية التي تتعرض لها المصارف منذ سنةٍ ونيف بعيد الهندسة المالية “المشؤومة” التي أنتجت في حينه أرباحاً مرقومة “أنقذت” حسب رأي القطاع العملة الوطنية من آتون التضخم والإقتصاد الوطني من التهاوي نتيجةً للتراجع المقلق في مؤشرات ميزان المدفوعات وإرتداداته الحتمية على الميزان التجاري. إلا أنها قد أثقلت بالمقابل حسب المؤشرات والنتائج المعلنة كاهل الدولة وخزينتها بدين عام متفاقم وعجزٍ متنامٍ.
آخر فصول هذه “الحروب الصغيرة” هو ما تنامى من أخبار عن نية وزارة المالية بإخضاع إيرادات ودائع المصارف لدى مصرف لبنان كما والودائع بين المصارف (Interbank deposits) مع رزمة من المحاصيل المالية الأخرى لضريبة المادة 51 من القانون رقم 497/2003 المعدّلة بموجب المادة السابعة عشرة من القانون رقم 64 تاريخ 20/10/2017. وكانت السلطات قد سبق لها ورفعت نسبة الضريبة التي تلحظها تلك المادة من 5 إلى 7% كما وفرضت ازدواجية تكليف ضريبي بالنسبة للمكلفين الخاضعين لنظام الربح الحقيقي وسيما منهم المصارف بعد إلغاء حق استرجاع الضريبة (Tax credit) على الفوائد والعائدات والإيرادات الداخلة ضمن أرباحها والمسددة عن طريق الاقتطاع لدى المنبع.
في الوقائع العملية والحيثيات، يتبين أن هذا الإعتقاد والتخوّف الملازم قد نتج بعد صدور قرار وزير المالية رقم 1504/1 تاريخ 22/12/2017 الذي الغى القرارات السابقة ذات الصلة وسيما منها القرار رقم 403/1 تاريخ 18/3/2003 الذي كان قد حدد دقائق تطبيق المادة 51 عند صدورها. وقد خلا القرار الحديث العهد من أية إشارة إلى إيرادات الودائع سواء لدى مصرف لبنان أو بين المصارف، ولم يشملها بالإيرادات المستثناة صراحةً من الضريبة في المادة الثالثة (أي حسابات السلطات العامة وما شاكلها المحلية والأجنبية)، لعله بسبب بتر المادة 51 من بندها ثالثاً الذي كان ينص على أن تُستثنى من هذه الضريبة المبالغ المودعة لدى مصرف لبنان. وكنت قد أشرت في حديث صحافي سابق، نُشر في الموقع عينه من جريدة الجمهورية الغراء في بداية “الأزمة”، بأن الحلّ الأنسب لهذه المعضلة يكمن في تعديل المادة 51 مجدداً على النحو المطلوب لإخراج تلك الإيرادات من الوعاء الضريبي أو إعفائها بصريح العبارة وذلك، عن طريق تضمين مشروع قانون موازنة 2018 بند تعديلي لهذه الجهة أو عن طريق إقتراح قانون معجل مكرر. وهذا ما من شأنه أن يزيل كل إلتباس أو لبس ويجنب المكلفين من أي تمادي أو إستنسابية في التفسير والتطبيق…على غرار ما باتوا معتادين عليه لسوء الحظ!
إلا أنه ومع إستفحال الأزمات السياسية وسيما منها الرئاسية الدستورية وقرب موعد الإنتخابات التشريعية، أضحى من الصعب إن لم يكن من المتعذّر الوصول إلى حلٍ مجدي وسريع عبر الوسائل التشريعية التقليدية المتاحة. وعليه، ونظراً لخطورة هذه المسألة في حال لم يصار إلى لجم وكبح الجنوح وتوضيح الأمور سريعاً قبل تفاقمها، بات يقتضي البحث عن حلول عملية و/أو قانونية صائبة ليبنى على الشيء مقتضاه.
ومن هذا القبيل، وإن عدنا في التحليل إلى نية المشرّع الأساسية الواردة في حرفية وروحية نصوص قانون ضريبة الدخل التي إستباحته التعديلات غير المدروسة وغير الموفقة على مرّ العقدين الأخيرين، يتجلى من مراجعة المادة 69 أنها حددت بصورة شاملة نوعية وطبيعة إيرادات رؤوس الاموال المنقولة الخاضعة لضريبة الباب الثالث (10%) ومنها ما جاء في الفقرة 10 الأخيرة أي: “فوائد التأمينات والودائع النقدية، اية كانت الوديعة وايا كان صاحبها، والحسابات الجارية، وعائداتها وايراداتها“.
غير أن المشرّع عينه قد عاد وإستدرك في تلك الآونة أن من شأن هذا التكليف فرض إزدواجية ضريبية على نفس الإيراد لدى فئة معينة من المكلفين كالمصارف والمؤسسات المالية التي يشكل هذا الإيراد بالنسبة لها موردها الأساسي الخاضع أصلاً لضريبة الباب الأول (أي عملياً ضريبة الشركات بمعدل 17% راهناً). لذا، فقد ألحقها بالمادة 70 التي نصّت على ما حرفيته: “ تخضع الفوائد والعائدات والارباح والايرادات الناتجة عن ممارسة المهنة لضريبة الباب الاول. وفيما عداها، تتناول الضريبة على دخل رؤوس الاموال المنقولة كل ربح او ايراد او دخل راسمالي غير خاضع لضريبة اخرى على الدخل. ولا يستثنى منها الا ما كان معفيا بنص صريح في القانون.” وبالتالي فإن الإيراد المحقق في الحالة المعروضة لا يكون معفى بل خاضعاً بطبيعته لضريبة نوعية أخرى.
وعلى أساسه، فإن ما أدرجه مشرّع بداية الألفية الثالثة في البند ثالثاً من المادة 51 المستحدثة، أو حاولت إستدراكه السلطة التنفيذية في حينه في قرارها رقم 403/1 لتأكيد الإعفاء، هو لزوم ما لا يلزم كون الإعفاء من ضريبة الباب الثالث مكرس أصلاً عن طريق المادة 70 المنوه عنها أعلاه كما والمادة 8 من نفس القانون التي إعتبرت أن: “إيرادات رؤوس الأموال المنقولة (…) التي تشكل جزءاً من أصول المهنة أو المؤسسة (هي) قسماً من الواردات التي تتناولها الضريبة (الباب الأول)“. أما وفي حال الإصرار على التكليف (وهذا ليس من مصلحة الخزينة على الإطلاق لتمايز نسب التكليف) فتُطبق عندها مندرجات الفقرة الثانية من نفس المادة لجهة أنه: “ إذا كانت هذه الإيرادات خاضعة في الأصل لإحدى الضرائب النوعية الأخرى على الدخل، وأضيفت إلى الأرباح عند تحققها، فإنه يمكن تنزيلها بكامل قيمتها في هذه الأرباح وعدم إخضاعها للضريبة المنصوص عليها في هذا الباب“. وهذا الإجراء يراعي مبدأ عدم تراكم الضرائب النوعية.
يُستفاد من كل ما تقدم، أنه بات من المتاح للقيمين على هذه القضية قلب الموضوع رأساً على عقب وتفسير المسألة عن طريق الإستدلال وربط النصوص فيما بينها وإعتبار أن وزير المالية كان محقاً عندما لم يُضمن قراره الأخير رقم 1504/1 تاريخ 22/12/2017 موضوع إعفاء ودائع المصارف لدى مصرف لبنان كما والودائع بين المصارف كونها خارجة أصلاً عن سياق ونطاق الموضوع المطلوب تحديد دقائقه (المادة 51) وترعاه نصوص أخرى تستثني تلك الإيرادات من الخضوع لضريبة الباب الثالث كونها عنصر من عناصر الدخل الإجمالي الخاضع في الأساس لضريبة الباب الأول (المواد 8 و70 من قانون ضريبة الدخل) وهي تندرج ضمن نطاق ممارسة المهنة وبالأخص بالنسبة للإحتياطي الإلزامي الذي يفرضه قانون النقد والتسليف. وتكون والحال ما تقدم قد إحترمت الإدارة الضريبية مبدأ موازاة الصيغ والأصول المتعارف عليه والمكرس قانوناً بخلاف ما حصل سنة 2003؛ لأن الإستثناء من الضريبة الوارد في كل من المادة 51 من القانون رقم 497 والمادة الثالثة من القرار الجديد رقم 1504/1 يعني الإعفاء التام والشامل بينما إستثناء الإيرادات المصرفية العتيدة الملتبس مصيرها لا يعني الإعفاء بل الإخراج من نطاق ضريبة الباب الثالث لتكليفها تحت الباب الأول، ما يجعل التباين والإختلاف بين الفئتين جوهرياً. وجلّ ما يتوجب القيام به (ومن المستحسن السعي إليه لإلزام الإدارة بالقرارات التي تتخذها) هو إستصدار تعليمات إدارية داخلية تطلب بموجبها الإدارة الضريبية من المراقبين عدم تكليف تلك الفئتين من الإيرادات بضريبة ال7% للأسباب المبينة والمعللة أعلاه. مع التشديد إذا لزم على أن هذا الإجراء ليس من شأنه إعفاء الإيرادات المخصوصة كما يتم الترويج له إعلامياً بل هو تدبير ضروري للحؤول دون تراكم الضرائب النوعية والإزدواج الضريبي المخالفين للأصول والمبادئ الضريبية. وتكون الوزارة بإجرائها هذا قد إعتمدت على العرف السائد والمكرس فقهاً وإجتهاداً على حدّ السواء لجهة أنه: “على القاضي أو الإدارة في معرض تفسير نص ضرائبي أن يرتكز على نية المشترع التي يستنتجها من مجمل النصوص التشريعية لأنه فيما يتعلق بتفسير القوانين يجب تفسير النصوص بصورة متوافقة بعضها مع بعض بدلاً من تعطيل مفعولها بتفسير نص بصورة غير ملائمة ومتجانسة مع النصوص الأخرى وإلا جرد النص من مفاعيله“. فرب ضارة نافعة…ولما لا؟
كريم ضاهر
محام وأستاذ جامعي